توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

اختيار وإجبار

زميلنا الأستاذ عبد الله العلويط، الباحث المعروف في المملكة، أثار هذا الأسبوع مسألة التدين القسري، في سياق حديث للتلفزيون عن إغلاق المتاجر والأعمال في أوقات الصلاة. وهذا عرف عمره نصف قرن على الأقل، عرفنا لاحقاً أنه لا يستند إلى قانون عام. فقد أنشئ بمبادرة من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي كانت موكولة بهذا الأمر. واستمر هذا العرف إلى اليوم. وبات معتاداً أن يتوقف موظفو الدوائر الرسمية ساعة أو بعض ساعة، إذا حل وقت الصلاة، مع أن الصلاة نفسها لا تستغرق سوى بضع دقائق.
وقد بعث حديث الأستاذ عبد الله جدلاً ينشط ويهدأ بين حين وآخر، حول صحة هذا العرف وانسجامه مع روح الدين. لا يصعب تصور موقف طرفي الجدل. فمن يؤيد استمراره يحتج بأن الصلاة أعظم تمظهرات الدين في الحياة اليومية. فلا ينبغي السماح بالتهاون فيها، وأن على الحكومة أن تستعمل سلطتها في جعل الطابع الديني حاضراً مشهوداً في الحياة اليومية للمجتمع. ويكرر هؤلاء قولا ينسب للخليفة الراشد عثمان بن عفان: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وهو مشهور، ومعناه معقول. لكن نسبته غير متيقنة.
والقصد من الاستشهاد به أن استعمال أدوات السلطة المادية ضروري، حين لا يستجيب الناس للدعوة اللينة والتذكير الحسن.
معارضو ذلك العرف، حجتهم أن الصلاة تكليف فردي، يجب على المؤمن إقامتها مختاراً مطمئناً. ولو أقامها مجبراً فقدت نية التقرب إلى الله، والنية ركن في العبادة. وتذكر في العادة روايات وقصص عن صحابة وخلفاء تراجعوا عن استعمال القسر، بعدما احتج عليهم بأن المصلي صلى خوفاً منهم، لا رغبة في رضا الله.
أما الحديث المشار إليه، فالأولى صرفه إلى عمل الحاكم، الذي ينطوي بطبعه على جانب جبري، ومثله عمل القاضي الذي يحكم في النزاعات، فلا بد أن يكون أحد الطرفين غير راضٍ بالحكم، لكنه يضطر لإنفاذه خشية العقاب. وهذا من طبائع الأشياء. أما العبادات، فهي كما سلف القول، مشروطة بالاختيار وخلوص النية، مجردة عن القسر المباشر والمادي.
جوهر الموضوع إذن هو التدين الجبري الذي كان مسكوتاً عنه في الماضي. لكنه اليوم يواجه باحتجاج صامت حيناً وصاخب حيناً آخر. وأعلم أن بعض الدعاة والآباء كانوا يتقبلون الفكرة في الماضي. لكنهم يعارضونها الآن، بعدما اكتشفوا أن الجبر على الشعائر والمظاهر الدينية، قد أسهم في توليد توترات نفسية وسلوكية، بخلاف ما يفترض من ثمرات الإيمان، أي الاطمئنان والسلام الداخلي وملاينة الآخرين. وذكر أحد الدعاة البارزين، أن هذا النوع من الجبر قد يفسر ارتفاع نسبة الاكتئاب عند النساء، مقارنة بالرجال الذين يتعرضون لقدر أقل من الجبر على المظاهر الدينية.
هذه النقطة تشير في الحقيقة إلى حاجة ملحة للتفكير في الشعائر والمظاهر الدينية، كعنصر متكامل مع الإطار العام للحياة الشخصية أو الاجتماعية. بعبارة أخرى، فإن تحقيق حكمة الصلاة مثلاً، كما في قوله تعالى: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» رهن بتواصل الصلاة وتناغمها مع الإطار الحياتي الذي تجري فيه. أما الشعائر التي يقيمها الإنسان مجبراً، فهي مجرد حلقة منفصلة عن حياته ووجدانه، مثل دواء يتناوله المريض وهو يتمنى الخلاص منه في أقرب وقت.