سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

«سيزيف» لبناني

طائرات إسرائيلية تعبر الأجواء اللبنانية جيئة وذهاباً، تقصف سوريا وتعود أدراجها أو لا تعود. صفارات إنذار تدوي في شمال فلسطين المحتلة، تُسمع أصواتها جلية في القرى الحدودية الجنوبية. بدء بناء جدار عازل، من قبل إسرائيل يهدد بتوتر شديد. توقيع اتفاقيتي تنقيب واستخراج للنفط في مياه إقليمية تدّعي إسرائيل حقها فيها، ويصر لبنان على المضي في مشروعه حتى النهاية.
كثيرة هي الأخبار المنغصة والمُمِضّة في البلد الصغير، ومع ذلك يصرّ اللبنانيون على أن التفاؤل مخرجهم. لعلهم تعلموا أن الخوف والتوتر لا يجديان نفعاً. لربما استنتجوا أن الانتظار بحد ذاته، موت غير معلن، والسير بين الألغام خير من التجمد رعباً. تسير الحروب حولهم، تزنرهم، ويمضي اللبنانيون إلى انتخاباتهم وحماستهم وخلافاتهم حول بعض تفاصيل القانون الجديد، وبحثهم عن تحالفات تؤمن لكل فريق أكبر عدد من المقاعد. ولا يتوانى المجتمع المدني عن بناء تحالفاته الخاصة في مواجهة من يعتبرهم سبب الفشل والفقر وأكوام النفايات، يريد أن يخترق تكتلاتهم واتفاقاتهم. سيل وافر من مرشحين شباب، نساء، ممثلي جمعيات، إعلاميين، كلهم يريدون أن يشاركوا، أو أنهم للمرة الأولى يشعرون بأن بصيص أمل قد فتح مع القانون الانتخابي الجديد، ونسبية حساباته التي يمكن أن يتسللوا منها إلى موقع قرار.
تسع سنوات من دون انتخابات لم تكن سهلة. حدث فيها من التراجعات الاقتصادية، ونمو نسبة الدين العام، واهتراء إدارات، وتفشي فساد، وانهيار مؤسسات صحافية، وإغلاق مصانع؛ ما يجعل انتزاع بعض الكراسي من الطبقة الحاكمة المكرّسة، وهزّ سلطتها واجباً وطنياً.
مقومات البلد كبيرة، يدرك المواطنون ذلك، لبنان في نظرهم يتجاوز حدوده الجغرافية الصغيرة، إلى أميركا اللاتينية وأوروبا، وربما يصل إلى أقاصي آسيا وكل بقعة اغتراب. وليس أوضح من هذه الفكرة حين يتحدث عنها نابغة المغتربين، شهير علاج الأمراض السرطانية في هيوستن البروفسور فيليب سالم وهو يدعو إلى إقامة «اللبنانية العالمية» وتشكيل لوبيات فاعلة لحماية لبنان، على غرار «الصهيونية العالمية»، ويطالب بالسعي إلى «إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس». وإذا صدقنا فرويد، وهو أفضل من شرّح أسرار النفوس، فإن «النجاح في الكبر، هو مجرد تحقيق حلم الطفولة». ومن لا يتخيل لا ينجز، كما أن للدول طفولتها أيضاً ومراحل نموها ونضجها. وربما أن نواة الفكرة حاضرة، والشبكة اللبنانية موجودة وإن كانت تحتاج إلى تفعيلها.
قل ما شئت عما كتبته نحو 200 شخصية لبنانية، في عدد خاص أصدرته جريدة «النهار» من 80 صفحة، إجابة عن سؤال واحد هو «كيف نبني وطناً؟» سمِّ ما كتب جنوناً، جنوحاً، استخفافاً، قل ما أحببت في هذا السيل من الإيجابية المفرطة، لكن المشاركين ليسوا سذجاً. منهم من يدير مصارف فذة، وجامعات تخرّج مئات آلاف الطلاب، بينهم فنانون عالميون، إعلاميون مخضرمون، كلهم يجمعون على أن الإمكانات متوفرة، بما فيها المال والعنصر البشري، والغائب الوحيد هو الدولة.
بدأ إيلي صعب من لبنان بمشغل فيه عشرة عمال ووصل لأن يلبس فاتنات الدنيا ويصوغ الذوق الجمالي في كل بقعة على الأرض. ومثله أرادت سارة بيضون أن تساعد النساء في السجون فعلمتهن التطريز. ومن غياهب الزنازين البائسة، خرجت من بين أيدي السجينات، حقائب حملتها السيدات الأوليات وفاخرن بها.
مع إنترنت بطيء، مكلف، شحيح، تبوأ لبنان المركز الثاني في المنطقة بعدد الصفقات التكنولوجية التي عقدها، والمكاسب التي جناها، وتمكن شبان لبنانيون ماهرون من بيع تطبيقات بأسعار خيالية بالنسبة لهم كما «ديواني» الذي اشترته فرنسا بثلاثين مليون دولار. هذه الأخبار يطلعك عليها أهلها وهم يعلمون عما يتكلمون. يحتاج هؤلاء الشبان إلى جرعات صغيرة من المال، وكثير من التشجيع. كان يكفي أن يوفر «مصرف لبنان» 400 مليون دولار للشركات الناشئة كي تقفز الصفقات في ثلاث سنوات بنسبة 88 في المائة. مليارات الدولارات يرمى بها من النوافذ. هناك استسهال في الهدر، استخفاف بالأموال العامة. توظيف فوضوي في المؤسسات العامة، تخفيف لمستوى البطالة بترقيعها بدل معالجتها. تم رفع التوظيف للأساتذة في المدارس الرسمية بنسبة مائة في المائة مقابل زيادة للطلاب لم تتجاوز 25 في المائة، علماً بأن المستوى التعليمي لم يحلّق عالياً. تشغيل المحاسيب وإنهاك خزينة الدولة، يستنزف الميزانيات.
رغم ذلك، يأمل كثيرون في أن التغيير بات حتمياً، ما دام أن الجميع يقف أمام طريق مسدودة. وكما تسعى الصحافة لأن تؤمّن مداخليها بتحسين أدائها، وتغيير أنماط تعاملها مع القراء. وتسعى المحطات التلفزيونية اللبنانية لأن تتكتل معاً على «منصة» واحدة وتلزم المستفيدين من موزعي الخدمات بدفع بدل أتعابها، بعد أن كانت مجانية في زمن الرخاء. ستجد الدولة نفسها بعد الانتخابات، أياً تكن الجهات الفائزة، ومهما كانت حصصها، أمام تحدي الانهيار الشامل أو العمل برؤية متكاملة. ولعل أنجع ما في المرحلة التي نعيش، رغم سوداويتها، أنها تحثّ الكل على استنفار طاقاته كي يستمر. قد يكون البعض لا يزال يشعر بأن الوقت يمهله، لكن من بين المشاركين في عدد «النهار» الاستثنائي الذي يشبه خطة لورشة عمل وطنية أطلقها اللبنانيون، تلك الأصوات التي تطالب بـ«ولادة جديدة» ودعوة لـ«صناعة الفرح» وأخرى لـ«إنقاذ الوطن»، مع اعتراف إحدى المشاركات بأن ما يبغيه لبنان «رسالة سيزيفية»، لكن الآخرين يجيبون، وكأنما بصوت واحد، بأن الفرصة متاحة ومن الجنون ألا تنتهز.