خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

مشكلة الدخول والخروج

من مشاكل عالمنا المعاصر، شرقاً وغرباً، مشكلة الدخول أو الخروج. تكاد تكون أصعب من الحصول على وظيفة. كذا كان الأمر في عراق صدام حسين. كلا يا سيدي، قلت لنفسي. وصولك إلى المطار لا يعني خروجك بسلام. هناك في بهو المطار وجدت نفسي بين شلة من الضيوف الأجانب الذين حضروا مثلي لمهرجان المربد. تقدم مسؤول جوازات السفر وطلب من الجميع تسليم جوازات سفرهم لمعاملتها وختمها. أخذها منا وبعد دقائق قليلة عاد بها مختومة ومصدقة. وراح يوزعها علينا، نادى بالأسماء واحداً تلو الآخر. ميشيل معروف، بيتر جريكس، جوزيف تروشنك.... إلى آخرهم. صافحهم وسلمهم جوازات سفرهم حتى خلت يداه من أي جواز.
«أخي وأنا؟»، سألته: وين جواز سفري؟ أجابني بخشونة: «منو أنت؟ إش اسمك إنت»؟ قلت خالد القشطيني. قال: «ئي نعم. سيد قشطيني. الضابط يريدك. الجواز عنده».
غريب كيف يمكن للإنسان أن يتلقى الشدائد ولا ينهار قلبه. ضابط الأمن يريد يشوفني! وما زلت واقفاً على قدمي. قال: «تفضل الحقني للضابط». مشيت وراءه كالحمل الوديع. كل الحاضرين تسلموا جوازات سفرهم إلا أنا! رحت وراءه أتأمل فيما عسى أن يحصل لي. سجن؟ اعتقال! إعدام؟
دخلت غرفة الضابط المليئة بالدخان واستكانات الشاي. وكان الضابط منشغلاً بكومة من الأوراق وجوازات السفر. لم يرفع رأسه ليعاينني. لا يبشر ذلك بخير. انتظرت دقيقتين ثم تنحنحت: تسمح سيدي جواز سفري! قال: منو إنت؟ قلت: خالد القشطيني.
فجأة نهض الرجل من مكانه بما أوحى لي بأنه سيختصر الطريق وينفذ عقوبة الإعدام فوراً بمسدسه المربوط بحزامه. نهض وأسرع نحوي بخطوات ألقت الرعب في قلبي. أسرع نحوي بخفة ولكنه خطفني بذراعيه وراح يغمرني بالقبل والعناق.
«ابن القشطيني، ابن محلتنا، ابن سوق الجديد. أول ما شفت هذا الجواز وقريت الاسم قلت مستحيل أخليك تمر من هنا قبل ما أشوفك وأبوسك. إنت مفخرة لكلنا». تصورت أنه يقصد بكلنا مفخرة للعراق وكل العراقيين، ولكنه أردف فأضاف «مفخرة لكل أولاد طرفنا، سوق الجديد وصوب الكرخ. أنا أقرأ زاويتك كل يوم في («الشرق الأوسط»).
يا «ولد!» نادى بأعلى صوته: «جيب شاي لأستاذنا القشطيني. ما أخليه يمر منا مثل الأجانب والغرباء. لازم يشرب شاي معي».
بالطبع أنا قبلته، وعيني على جواز السفر، أكثر مما قبلني. اعتذرت عن شرب الشاي معه وأخذت الجواز شاكراً ألف شكر ورحت أجري نحو طائرة الخطوط الجوية العراقية ولساني يتمتم بالحمد والشكر لله: «يا ربي عجّل بسفر الطيارة قبل ما توصل أوامر جديدة لحضرة الضابط باعتقال ابن محلتنا».
«داخلها مفقود وخارجها مولود» شعرت بالفعل كمن ولد تواً في الساعة. ما انطلقت بنا حتى رحت أعاين من شباكها. نعم تركت منائر بغداد وراءنا، وهذا نهر الفرات وبادية الشام وأنا أراقب وأحاسب حتى رأيت زرقة البحر المتوسط تحتنا فتنفست الصعداء.