جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

عصر «عدم اللمس»

التكنولوجيا في أيامنا هذه تتفوق على نفسها وسرعتها تفوق سرعة المرحومة طائرة الـ«كونكورد» فوق الصوتية، وركوب موجة التكنولوجيا صعب للغاية، بغض النظر عن المهنة والمكانة الاجتماعية وحتى السن.
والتطور التقني بوتيرته فائقة السرعة أتى بطريقه على الكثير من طرق التعامل والمعاملات التقليدية التي أصبحت اليوم شيئاً من الماضي، وأبرز مثال على ذلك سيطرة التكنولوجيا على العملات النقدية، حيث حلت مكانها طريقة الدفع على طريقة الـ«Contactless» أو «عدم اللمس»، ولم تعد هناك حاجة حتى لوضع بطاقة الائتمان داخل الماكينة الخاصة للدفع، ويكفي تمريرها بسرعة لكي تتم عملية تحويل المبلغ.
ففي مقاهي القهوة بلندن مثل «ستاربكس» لم تعد هناك حاجة للوقوف في طابور طويل لطلب القهوة أو غيرها، فيكفي أن تسجل طلبك على التطبيق الخاص لتجد طلبك جاهزاً وبانتظارك على المنصة دون الحاجة لحمل أي عملة.
حياتنا اليوم قليلة التماس بشكل عام، فهي أصبحت افتراضية أكثر منها حقيقية وفعلية تعتمد على اللقاءات الشخصية والتفاعل الحيوي بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، وتعدت هذه المشكلة أشواطاً لم تكن في الحسبان، بحيث أصبحت الأوراق النقدية عملة صعبة بالمعنى المجازي.
وما شدني إلى اختيار هذا الموضوع ما قرأته في صحيفة بريطانية محلية، تحكي قصة مشرد من أصول ألبانية يدعى فابيان يبلغ من العمر خمسين عاماً، يعتاش من بيع مجلة «ذا بيغ إشو» The Big Issue المعروفة في بريطانيا كونها مجلة خيرية يقوم ببيعها المشردون في الشوارع، ومع عدم توفر المال في جيوب المارة في الشوارع انحدرت نسبة المبيعات بشكل هائل، مما زاد وضع المشردين سوءاً، لأن الترتيب معهم هو شراء المجلة من دار النشر بقيمة جنيه و25 سنتاً وبيعها للعموم بجنيهين ونصف الجنيه، وبهذه الطريقة يحتفظ المشرد بالفرق ليساعده على شراء قوته كفاف يومه. إلا أن فابيان الذي عمل في بيع المجلة لمدة سبع سنوات بالقرب من جامعة بريستول فكر مراراً وتكراراً بحل يستطيع من خلاله بيع المجلة وجني المال ولو بنسبة متواضعة، فخطرت بباله فكرة مواكبة التكنولوجيا بطريقة بسيطة من خلال استثمار مبلغ 30 جنيهاً إسترلينياً في ماكينة تخول المارة من تمرير بطاقاتهم الائتمانية لشراء المجلة، وتحققت أمنية فابيان، وها هو اليوم يبيع مئات الأعداد في الطريق، وحلمه التالي هو شراء حافلة يقيم فيها في ألبانيا والسفر إلى مختلف أصقاع العالم للتعرف على ثقافات العالم.
في هذه القصة عبرة تتعدى ما فعله المشرد فابيان، إنما تثبت بأن التكنولوجيا شر لا بد منه، ومهما تظاهرنا بعدم الاكتراث بها فسنراها تلاحقنا، وتفرض نفوذها علينا.
قد يكون الدفع على طريقة «عدم اللمس» ليس رائجاً في جميع دولنا العربية «بعد»، إنما صدقوني فهو على وشك الوصول، لا بل إنه على الأبواب.
فمن المجدي التأقلم مع حالنا الرقمي، وإلا فسنصبح رقماً سهلاً وليس صعباً، لا بل سنفقد هويتنا لنتحول إلى مجرد رقم لا يقدم ولا يؤخر.
ولا توقعوا باللوم على التكنولوجيا فنحن من خلقها، وبذكائنا الآدمي خلقنا الذكاء الاصطناعي، وفكرنا بكل شيء إلا بشيء مهم جداً ألا وهو: هل يتفوق الذكاء الصناعي على الذكاء الطبيعي ويجعله تماماً مثل العملة النقدية شيئاً من الماضي؟
الأكثر خطورة في الحياة هو خلق ما يستطيع التفوق علينا ذكاء وأداء، وبما أننا كنا وراء خلق التكنولوجيا، فلا بد أن نجعلها مثل العجينة في يدنا بدلاً أن نحولها إلى عملاق يحطمنا تحت قدميه ويلغي الحاجة إلى وجودنا.