إميل أمين
كاتب مصري
TT

«فالداي»... ولاعب في كل الساحات

لم يكد مؤتمر ميونيخ للأمن ينهي أعماله ويلملم أوراقه، إلا وكان منتدى فالداي الدولي للحوار تنطلق فعالياته، في المدينة الروسية الواقعة في منتصف الطريق بين موسكو وسان بطرسبرغ، وعلى ضفاف بحيرة فالداي التي سُمي المنتدى باسمها.
تم تأسيس المنتدى عام 2004 ليكون «رواقاً»، إن جاز التعبير، للحوار بين النخب الفكرية الروسية، وتقديم تحليل علمي موضوعي مستقل للتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في روسيا والعالم.
حمل المنتدى هذا العام عنواناً مثيراً للتفكر والتدبر: «روسيا في الشرق الأوسط... لاعب في كل الساحات»، فهل أضحت روسيا – بوتين، وعن حق، سيدة الشرق الأوسط؟
تحليل المشهد الشرق أوسطي الآني كمياً وكيفياً يؤكد أنه عصر استعلان روسيا ومن جديد صديقاً، ولو براغماتياً، للدول التي ارتبطت بعلاقات تاريخية مع الاتحاد السوفياتي من قبل، واليوم تكتسب موسكو أصدقاء جدداً، وإيران في المقدمة.
منذ نهايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتساؤل المطروح على طاولات النقاش الدولية الفكرية: هل واشنطن حسمت أمرها في الانسحاب من الشرق الأوسط؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن الروس عرفوا جيداً كيفية الولوج لملء فراغات القوة التي خلفها الأميركيون، وذلك عبر عدد من الآليات والوسائل التي أثبتت نجاعة واضحة حتى الساعة.
بداية يمكن القول: إن تميز بوتين الحقيقي جرى من خلال الاستفادة من العقلاء والحكماء التاريخيين في بلاده، السابقين له خصيصاً، وفي مقدمهم يفجيني بريماكوف، السياسي والدبلوماسي والمفكر الروسي العميق، وخبير الشرق الأوسط الأول منذ العهد السوفياتي.
وضع بريماكوف منهجاً أحسن بوتين السير على دربه، تمثل في الانخراط الروسي النشط في كل قارات العالم، باعتبار روسيا قوة عظمى قادرة على التفاعل الإيجابي مع مسارات الأحداث الدولية، ومن خلال ضبط المسافات بين ما تتطلبه الذرائعية النفعية الروسية، في حدها الإيجابي، والتهديدات التي تعارض هذه المصالح مع مصالح دول أخرى.
وبين هذه وتلك، كانت موسكو تزن بميزان من ذهب احتمالات المواجهات لتتجنبها، وفرص التصعيد العسكري لتقلصها، وهي تعلم علم اليقين أن قواها الاقتصادية لا تضارع ما لدى الأميركيين.
غير أن روسيا استطاعت التعاطي مع كل ساحات الشرق الأوسط، حين أظهرت وخلال سنوات ما سمي «الربيع العربي» بنوع خاص، أنها أكثر ولاء ووفاء لحلفائها من الجانب الأميركي، الذي لم يتورع عن التخلي عن صديق مثل حسني مبارك، قدم للأميركيين ما لم يقدمه أحد طوال ثلاثة عقود، إلى حين أشار البيت الأبيض بأن «عليه الرحيل الآن، أي الآن»، ولهذا لم يكن غريباً أو مثيراً أن ترتفع صور أوباما في ميادين الثورات العربية، إن جاز تسميتها ثورات، ومنها ميدان التحرير، وسط القاهرة.
أدركت روسيا مقدماً أن هناك فرصة تاريخية للعودة إلى الشرق الأوسط، في ظل التخاذل الأميركي الواضح في زمن أوباما، ناهيك عن الفوقية الأميركية، التي باتت ترتبط في الأذهان بالتعالي عن الشعوب والحكومات، فمن ترضى عنه واشنطن تمنحه الهبات، ومن تغضب عليه تعلق له المساعدات، ما يجرح كرامة الشعوب والأمم.
في هذه الأجواء فتحت روسيا، ومن دون شروط، مصانع أسلحتها لدول الشرق الأوسط؛ سيما بعد طفرة السلاح الروسي الذي أضحى يضاهي الأميركي في مجالات، ويبزه في مجالات أخرى، ما جعل الشرق الأوسط، ومن جديد، سوقاً متسعة لمصانع السلاح الروسية.
أمر آخر لا بد من الإشارة إليه، يتصل بالمفاعلات النووية الروسية التي تتجه روسيا لبنائها في عدد من الدول العربية، لتوفير الطلب الكبير على الطاقة لأهداف اقتصادية، وهو ما لم يكن من الممكن قبوله من الجانب الأميركي، وبهذا كسبت موسكو مربعاً جديداً على الأراضي العربية، وبخاصة أنه يفتح الباب واسعاً للتعاون الصناعي، سواء التقليدي والعسكري.
والشاهد أنه حين تفقد أميركا «قوتها الناعمة» شرق أوسطياً، ويخفت بريقها، ويتضاءل ألقها الذي دام خمسة عقود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تتراءى موسكو للعرب والشرق أوسطيين ثقافياً وفكرياً، فمنذ عام 2009 تم إنشاء كثير من المراكز الثقافية في البلدان العربية التي لم توجد فيها من قبل، عطفاً على تفعيل وتنشيط المراكز الموجودة مسبقاً ومنذ ستينات القرن الماضي، وتقوم على هذا الدور «الوكالة الفيدرالية لشؤون رابطة الدول المستقلة»؛ حيث تعتبر أداة من أدوات اللعبة الجيوسياسية الكبرى التي تمارسها لإعادة بسط نفوذها دولياً.
روسيا اللاعب على كل الساحات العربية، تختلف في جزئية جوهرية اليوم عن زمن الاتحاد السوفياتي الغابر، إذ لم تعد الدولة الشيوعية «الملحدة» التي تحارب الأديان وتسجن المؤمنين ورجال الدين، إنها روسيا – بوتين الذي يفتتح أكبر جامع للمسلمين في موسكو، وهي عينها التي بات ينظر إليها بأنها قبلة المسيحية المشرقية الناصعة، خلواً من أي شوائب عصرانية تلوثها، والدين هو سويداء القلب في العالم العربي، ما يجعل المسافة من روسيا أقصر كثيراً من نظيرتها واشنطن؛ حيث الإسلاموفوبيا تستعلن، واليمين الأصولي يمارس تجلياته السلبية.
في مقاله الأخير عبر مجلة «ناشيونال إنترست» الأميركية، يعترف دانيال ديفيس، الضابط الأميركي رفيع المستوى، المتقاعد والمتخصص في قضايا الأمن القومي، بأن «أفضل شيء يمكن أن تفعله واشنطن اليوم، هو أن تضع نهاية لعقدين من الفشل الاستراتيجي في الشرق الأوسط».
وإلى حين ذلك، غالباً سيبقى الشرق الأوسط ملعباً مفتوحاً لروسيا الاتحادية... العنقاء القادمة من الرماد.