إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

تليفون أم حسن

وقفة ثانية عند مذكرات الكاتب المصري محمد سلماوي، طريفة هذه المرة على رغم ما في السجون من عذابات ومظاليم. فقد جرى اعتقال سلماوي، أيام السادات، بتهمة عشوائية هي المشاركة في المظاهرات التي عرفت بانتفاضة الخبز، شتاء 1977. وسواء كانت التهمة حقيقية أو مصنوعة، ظلت تجربة الاحتجاز داخل الزنازين حافزاً لنصوص أدبية عالمية، على مدى العصور. ولا شكّ أن تقييد الحرية لحظة خاصة، تتناوب على صاحبها مشاعر متباينة من الخوف والضيق والجوع والبرد والأمل والاشتياق للأحباب والشمس والنسمة الطليقة.
يتميز سجن الاستئناف، الواقع خلف مديرية أمن القاهرة، بأنه الوحيد من بين سجون مصر الثلاثين، آنذاك، الذي فيه غرفة خاصة لتنفيذ عقوبة الإعدام. وإلى جانب وصف الغرفة وعملية الشنق ونوعية الحبل وشخصية الجلاد الأزلي «عشماوي»، يتوقف صاحب المذكرات عند الهاتف الذي سمح للمعتقلين بالاتصال بذويهم. و«مكان التليفون سطح بيت أم حسن التي كانت تسكن وراء مبنى السجن في منطقة درب سعادة. وكان من يريد أن يخاطب أحد المساجين، خارج أوقات الزيارة، يصعد إلى سطح بيت أم حسن ليتحدث إلى السجين المطلوب من شباك السجن». ولم يكن الاتصال مجانياً أو لوجه الله بل مقابل مبلغ تتقاضاه صاحبة البيت، يتصاعد كلما طالت المكالمة.
يكتب سلماوي: «لا بد أن أم حسن صنعت لنفسها ثروة كبيرة من تليفونها. فقد كان السطح يضج بالزيارات طوال اليوم، ما كان يسبب لنا مشكلة، حيث كثيراً ما يكون فوق السطح 10 أو 12 زائراً يتحدث كل منهم إلى سجينه في الوقت نفسه، فتتداخل المكالمات ما بين من جاءت تطلب الطلاق من زوجها وتدعو عليه ألا يخرج من السجن، وبين من جاء يخطر شقيقه أن والدهما قد توفاه الله ويطلب منه عمل توكيل رسمي لإتمام الإجراءات القانونية. كانت شتائم الزوج لزوجته التي تطلب الطلاق تختلط مع كلمات المواساة لمن توفي أبوه، وتشتبك أسلاك التليفونات بعضها مع البعض فتتدخل أم حسن نفسها في المكالمة لمحاولة التوفيق بين الزوج وزوجته، أو لتكيل له الشتائم لأنه أذاق زوجته المرّ، كما كانت تتدخل لتقول لأحد الزوار إن مدة المكالمة انقضت، وإنه إذا أراد الاستمرار عليه أن يدفع أجراً إضافياً».
اليوم يجري تهريب الهواتف النقالة إلى مراكز الاحتجاز فيحادث السجين أهله وهو ممدد في زنزانته. لكن في تلك الأيام «كان لا بد للسجين من الوصول إلى الشباك الواقع في أعلى الزنزانة المطلة على بيت أم حسن. إن ارتفاع الحائط 4 أمتار على الأقل، فكيف السبيل لتسلقه والوصول إلى الكوّة؟ يصنع المساجين حبلاً من البطانيات يعلقون طرفه في قضبان الشباك، يتسلقه أحدهم ويجلس عليه كالأرجوحة. وعلى الرغم من صغر الشباك فإن المتزاحمين عليه كثر، ويظل المعتقلون الآخرون ممسكين بالبطاطين من أسفل حتى لا يسقط صاحبهم، من فوق، وتنكسر رقبته.
صدرت المذكرات عن دار الكرمة في القاهرة بعنوان: «يوماً أو بعض يوم». وفيها إضافة لما اصطلحنا على تسميته، في أوطاننا الحرة السعيدة، بـ«أدب السجون». ومنذ ظهور مفهوم الجريمة والعقاب كان هناك، وراء القضبان، بعض الأدب والكثير من قلة أدب. إهانات واعتداءات وتعذيب ومرارة. ويبدو أن أدب السجون سيبقى مزدهراً ما بقيت البشرية، لا فرق بين عالم ثالث وأول، بين شرق المتوسط وغربه. هذا رغم ثورات التحرر وانتفاضات الخبز وشتاءات العصيان وخريفات الغضب وربيعات طفحان الكيل.