عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الذنب الأصغر لغاية الثواب الأكبر؟

المجتمع، محلياً في بريطانيا، وعالمياً، يواجه أسئلة فلسفية أخلاقية لا إجابة قاطعة عليها مثل الأسئلة العلمية.
السبب الفضائح المتتالية لعدد من المؤسسات الخيرية العالمية، بدأت بـ«أوكسفام» وآخرها «بلان إنترناشيونال» (plan international) ساعة كتابة هذه السطور.
مؤسسات اعترفت باقتراف بعض العاملين فيها جرائم أخلاقية في العالم الثالث. بعضها أمور يعاقب عليه القانون هنا إذا ارتبط بها بريطاني، أو وقعت على أرضٍ بريطانية.
القانون ليس واضحاً في أمور يعتبرها المجتمع أخلاقية، لكن بدأت إعادة تفسير فقهاء القانون للنصوص لإدراجها تحت القانون الجنائي مثل التحرش الجنسي، أو المرونة في تعريف سن البلوغ والـ«consent» أي التراضي من جانب الأنثى البالغة.
تفجر الأمر في قضايا استغلال المراهقات والشابات من جانب عصابات الدعارة والمخدرات والنشاطات الخفية. كل أفراد العصابات من الباكستانيين. اتهمت الصحافة البوليس والمسؤولين في الإدارة المحلية بإخفاء القضية، والتغاضي عن نشاط العصابات خشية إغضاب الكل عما يفعله القلة منهم، مما قد يؤدي إلى صراع طائفي في المجتمع. كل أفراد العصابات المضبوطة (بلا استثناء) من المسلمين من أصول آسيوية.
وانتماء أفراد العصابة إلى طائفة أمر معتاد. المافيا كلهم كاثوليك إيطاليون، خصوصاً من صقلية؛ بينما عصابات «الترياد» كلهم من الصين.
في حالة العصابات الآسيوية، كانت كل ضحاياها من البنات الإنجليزيات البيضاوات غير المسلمات. واتضح من كشف ملفات القضية أن للعصابة فلسفة إجرامية بأن الضحايا هن دون مستوى الاعتراف بحقوقهن الإنسانية.
وهذا ما تعلموه على يد فقهاء وأئمة غير مؤهلين يروجون بأن «الآخر» الذي لا ينتمي للجنس نفسه أو العقيدة نفسها لا يستحق المعاملة طبقاً للمساواة في الحقوق.
برر المسؤولون تكتمهم (لجأت جمعيات حماية القاصرات للقضاء بقانون حرية المعلومات للحصول على التفاصيل) بأنهم يخشون أن يؤدي ذلك إلى قيام منظمات إنجليزية يمينية بالاعتداء على مسلمين، في مناطق فيها نشطاء سياسيون مسلمون.
هذه الفضيحة قبل عامين طرحت أسئلة فلسفية.
ما يعرفه رجال الدين وفلاسفة الأخلاق بارتكاب الذنب الصغير من أجل تحقيق الخير كهدف كبير؟
السؤال الثاني عن تعريف التراضي (consent) حتى بعد سن البلوغ.
فهناك عوامل تعرض الفتاة، التي تجاوزت البلوغ، للخضوع لسيطرة العصابات، وربما كانت معتمدة نفسياً ومادياً على العصابة قبل وصولها إلى مرحلة البلوغ التي ضبطت بعدها في بيت سيئ السمعة.
كان السؤالان في قلب فضائح الجمعيات الخيرية. حققت لجنة برلمانية مع مديري منظمة «أوكسفام» للأعمال الخيرية. اعتذر مديرو «أوكسفام». كثيرون استقالوا من «أوكسفام» والجمعيات، لأنهم تغاضوا عن الأفعال غير الأخلاقية في مناطق منكوبة كهايتي وبلدان العالم الثالث. استغلال حاجة نساء وفتيات للإعانات من مأكل وملبس، لإجبارهن على ممارسة الرذيلة والقيام بأعمال أخلاقية. المسؤولون في «أوكسفام» اعتبروها «رشوة» ضرورية للاستمرار في توصيل الإعانات لتلك المناطق؟
رشوة يدفعها الوكلاء المحليون وبعض المتطوعين (تعتمد هذه المؤسسات على آلاف المتطوعين العاملين بدوافع إنسانية بلا مقابل مادي). أموال، مخصصة للأعمال الخيرية، تدفع إلى بيوت سيئة السمعة ووكالات الدعارة لإقامة حفلات ترفيه للمتطوعين أو للمسؤولين المحليين لتسهيل الأعمال الخيرية.
اتضح أن هذه الممارسات مستمرة منذ سنوات. سبب تحقيق اللجنة البرلمانية يوم الثلاثاء أن إدارة «أوكسفام» في لندن علمت بهذه الممارسات منذ سنوات، وتكتمت عليها. المنطق نفسه الذي طرحته الإدارات المسؤولة في بلديات وسط إنجلترا «ارتكاب الذنب الأصغر نسبياً مقابل تحقيق الخير الأكبر».
اللجنة البرلمانية لم تقتنع بالتفسير، وبالطبع اعتذر المديران أمام اللجنة.
وزيرة التنمية الدولية بيني مورغان قررت تجميد دعم الوزارة لـ«أوكسفام» حتى اكتمال التحقيق. الوزارة تدفع لـ«أوكسفام» سبعة في المائة (أي 18 مليوناً و630 ألف جنيه) من دخلها السنوي، وكان في العام الماضي 409 ملايين جنيه (571 مليون دولار). وهذه ليست اللطمة الوحيدة لـ«أوكسفام» التي بدأ الرأي العام يتحول ضدها، فـ26 في المائة من دخل «أوكسفام» (قرابة 109 ملايين دولار) من تبرعات المواطنين، بخلاف ما تقدمه الحكومة (وهي أموال دافعي الضرائب).
الأمة البريطانية هي أمة يسرع أهلها بالتبرع لأعمال الخير، وقد لا يضاهي الشعب البريطاني أي شعب آخر، بل إن الفقراء يسرعون إلى التبرع قبل الأغنياء. ولهذا فإن فضيحة المؤسسات التي يفترض أن تقوم بأعمال خيرية أدت إلى إلغاء أكثر من سبعة آلاف أمر مصرفي بالتبرع الشهري لـ«أوكسفام».
وهذا طرح سؤالاً آخر من ناحية الفلسفة الأخلاقية. هل المتطوع للعمل الخيري بلا أجر، غرضه الخير لوجه الله فقط لا غير، أم أن هناك أهدافاً أخرى، قد يكون المتطوع للعمل الخيري واعياً بها، أو قد تكون دفينة في عقله الباطن؟
متطوعون من أسر ثرية أرستقراطية أو أبناء الشرائح العليا الاجتماعية من خريجي «أكسفورد» يضحون بحياة الرفاهية، أو تقاضي مرتبات سخية في الغرب للعمل بلا مقابل في ظروف الوباء والمجاعات. ما هو المردود؟
البعض من دافع ديني، أو واعز الخير العاطفي. لكن جانباً كبيراً من أن يكون الشخص في محل العطاء، هو التحكم في الموقف، أو ما يسميه علم النفس «control syndrome»، أي يكون التحكم في الموقف وفي أمور الآخرين جزءاً أساسياً من التوازن النفسي للشخص، ويضطرب إذا فقد الموقف الذي يسيطر فيه على الآخرين.
وهنا يكون المردود السيكولوجي من العمل بلا مقابل والتضحية المادية هو التحكم في حياة الآخرين. وعند البعض قد تتلاشى الحدود ويصبح التحكم في الأطراف الأضعف والأكثر حاجة في العالم الثالث هو هدف الوجود هناك.
وحتى يجيب مجتمع المؤسسات الخيرية الصغير، الذي تعيش فيه هذه المؤسسات عن الأسئلة الفلسفية المطروحة، لن يستطيعوا إعادة كسب ثقة الرأي العام في المجتمع الأكبر الذي يقدم لهم الدعمين المادي والبشري كشرايين حياة وجودهم.