خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

النواب والليرة المفقودة

لست من المهووسين بالتفرج على الفضائيات التلفزيونية، ولكنني أسمع بين الحين والحين عن تقاريرها في تحريض الشعوب على العنف والتخريب. آوي للفراش وأنا أفكر في هذا الأسلوب الذي يؤدي للتشجيع على الإرهاب. أبقى أفكر في ذلك وأتقلب في فراشي وأقضي الليل هكذا. فلا من عدو للنوم كانشغال البال. وبينما كنت أعاني من ذلك تذكرت حكاية السيد النواب، جد الشاعر مظفر النواب، الذي اتهمه الناس بالجنون.
كان النواب من أسر الراجات الهندية الحاكمة. اتفق معها الانجليز على التخلي عن ملكهم والرحيل إلى منفى في بغداد لقاء رواتب شهرية منتظمة تدفع لهم بالليرات الذهب. أسكنوهم بيتاً مهيباً مطلاً على نهر دجلة. وكنت أرى وأنا طفل صغير، رئيس العائلة، النواب الكبير الذي اتهموه بالجنون، يقف بدشداشة بيضاء ولحية طويلة بيضاء وصلعة تحيطها جدائل بيضاء. وكان الناس يحذرونني ويقولون، لا تقرب منه! إنه مجنون.
بما تعهد الانجليز من رواتب، لم يكن للنواب أي شيء يفعله في الحياة، وفي هذا البلد الغريب عنه. اعتاد على قضاء ساعات الفراغ بالمشي ذهاباً وإياباً في فناء البيت من حائط إلى حائط، وفي يده ليرة ذهبية من الليرات التي دفعها له الانجليز. يرمي بها في الهواء ثم يلقفها بيده على نحو ما يفعل الأكروباتية في السيرك.
بينما كان يزاول هذه الهواية البسيطة في أحد الأيام سقطت الليرة من يده وتدحرجت حتى وقعت في بالوعة البيت. لم يكن بوسعه مطلقاً استعادتها من صهريج البالوعة العميق المليء بالمياه القذرة. مضى وجاء بليرة جديدة أخرى واستأنف هوايته. ولكنه بعد بضعة أيام، استدعى أحد الخدم وحدثه عن الليرة المفقودة وكيف يمكن استخراجها من البالوعة. فأجابه: هذه عملية يقوم بها مختصون يعرفون بالنزاحين. ينزحون المياه القذرة والأوساخ من البالوعة ويفتشون عن هذه الليرة في الرواسب. جاء بنزاح محترف. سأله كم يتقاضى عن هذه العملية فقال خمس ليرات. قال ذلك مبتسماً وهو يتوقع من النواب أن يصرفه. ولكنه بدلاً من ذلك قال له: هيا باشر بالعمل. فجاء الرجل بمعداته وباشر بنزح البالوعة حتى عثر على الليرة فجاء بها ملطخة بالقاذورات وقدمها لسيد البيت. قال له: ضعها على الطاولة. وجاء بخمس ليرات نظيفة تلمع. أعطاها له شاكراً. استغرب النزاح من أمره فسأله: لماذا فعلت ذلك؟ ضحيت بخمس ليرات نظيفة من أجل ليرة واحدة وسخة؟ فأجابه قائلاً: «منذ أن أضعت هذه الليرة، انشغل دماغي بها. إذا نمت، إذا قمت، إذا مشيت ورأيت البالوعة، تذكرت الليرة التي فيها. رحت أفكر فيها وأتصورها في مكانها من البالوعة. وألوم نفسي وأسأل لماذا وكيف تركتها تسقط هناك. لم يهدأ لي بال ولا طاب لي النوم. والآن وقد استعدتها أستطيع أن أريح فكري وأنام صافي البال».
وكانت واقعة طريفة لها مدلولاتها، غير أن القوم راحوا يرددون بأن النواب رجل مخبول، يستبدل ليرة وسخة بخمس ليرات نظيفة تلمع!