إيلي ليك
TT

رغبة أميركية في عدم تصعيد الحرب السيبرانية

الديمقراطيون غاضبون. وقادة مجتمع الاستخبارات الأميركية على يقين من أن المتصيدين، والقراصنة، والروبوتات الروسية، يخططون للتدخل في انتخابات التجديد النصفي خلال الخريف الحالي، وحتى الآن لم توجه الإدارة الأميركية الأوامر للقيادة السيبرانية بالرد.
جاء ذلك في تصريحات الأدميرال مايك روجرز، مدير وكالة الأمن القومي، وقائد القيادة السيبرانية الأميركية، خلال شهادته أمام مجلس الشيوخ بالكونغرس مؤخراً. وكان يكرر التحذير الذي أعرب عنه قادة مجتمع الاستخبارات الأميركية في وقت سابق من الشهر الحالي. وردا على سؤال حول ما إذا كانت قد صدرت إليه التوجيهات من البيت الأبيض لمواجهة الهجمات الروسية المتوقعة في الفضاء السيبراني، أجاب الأدميرال روجرز بأنه لم يتلقَ أي شيء حتى الآن.
وفي خضم هذه اللحظات التحزبية المفرطة، من المفهوم أن تصريحات مدير وكالة الأمن القومي سوف تستخدم كهراوة ضخمة؛ إذ تقول الروايات إن الروس قد حصلوا على ما دفعوا ثمنه من زاوية السيد ترمب. ولكن على غرار أغلب الشؤون المتعلقة بالسياسات الروسية، فإن الأمر أكثر تعقيداً مما يبدو.
ولقد أجاب الأدميرال روجرز جزئياً عن سؤال حول ما إذا كانت قد صدرت إليه التوجيهات بإيقاف القراصنة الروس عند «نقطة المنشأ» الخاصة بهم؛ الأمر الذي يعني تنفيذ العمليات السيبرانية الهجومية والمصممة لإغلاق، أو إغراق، أو رصد الخوادم والشبكات التي تستخدمها روسيا في بث الأخبار المزيفة، والقرصنة على المواطنين الأميركيين، ونشر الفوضى داخل السياسات الأميركية. ومن شأن هذه العمليات أن تكون الأكثر حساسية التي تعمل الحكومة الأميركية على تنفيذها. وفي مثل هذه الحرب السيبرانية، فإن قواعد التصعيد والاشتباك لا تزال غير واضحة حتى الآن.
وكان الأدميرال روجرز، بهذا المعنى، يثير نقاشاً قد احتدم داخل أروقة الحالة الأمنية القومية منذ عام 2015. وفي هذا العام، كما ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» للمرة الأولى في ديسمبر (كانون الأول)، قام ديفيد كوهين، نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية في ذلك الوقت، بنشر تعميم لقائمة العمليات السرية الرامية إلى مجابهة الدعاية الروسية على شبكة الإنترنت من حيث المصدر. ومن بين الخيارات المطروحة كان إنشاء المتصيدين المناوئين للكرملين، وتعطيل الخوادم التي يستعين بها المتصيدون الروس. وقال أحد المسؤولين الأميركيين من المطلعين على تلك الخيارات، إن تلك الخيارات تضمنت أيضاً الكشف عن شخصيات العملاء الروس على الإنترنت، الذين يتعاملون باعتبارهم نشطاء أميركيين. وكما قالت صحيفة «واشنطن بوست» حينذاك، فإن ذلك المقترح قد سبب انقساماً داخل الإدارة الأميركية في ذلك الوقت، ولم يرقَ إلى مكتب السيد الرئيس لاتخاذ قرار بشأنه.
وفي أعقاب انتخابات عام 2016 الرئاسية، أعيد النظر في تنفيذ بعض من هذه الأفكار، عندما بدأت إدارة الرئيس الأسبق أوباما في صياغة سياسة انتقامية على التدخلات الروسية في ذلك العام، ضد المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. وكانت بعض تدابير الانتقام علنية، مثل القرار بإغلاق المرافق الروسية التي تضاعفت أعدادها بصفتها مراكز للتجسس. أما العنصر السيبراني، رغم ذلك، فقد كان متروكاً لإدارة الرئيس الجديد ترمب لاتخاذ القرار بشأنه.
ولقد أخبرني أحد المسؤولين في البيت الأبيض، أن هذه التدابير أثارت الجدل داخل أروقة الحكومة على نطاق واسع. والأدميرال روجرز ووكالة الأمن القومي، على سبيل المثال، يتطلعان لمزيد من الصلاحيات للبدء في مواجهة هذه الأنواع من الهجمات، ويطالبون بما أطلقت عليه وكالة الأمن القومي في دراسة استراتيجية حديثة، اسم «خفة الحركة» على مسار الموافقة على العمليات، في الوقت الذي تزداد فيه التهديدات.
وفي الأثناء ذاتها، فإن أناساً آخرين داخل الحكومة الأميركية - مثل وزير الخارجية ريكس تيلرسون، ووزير الدفاع جيمس ماتيس - يشعرون بالقلق من هذه التدابير. فهناك مخاطر تتعلق بالسمعة الأميركية على نطاقها الأوسع، إذا ما تسبب السلاح السيبراني في إلحاق أضرار كبيرة في البينة التحتية الرقمية للحلفاء، أو البلدان التي لم تكن هدفاً للهجمات في المقام الأول. وهذا ما حدث في قضية الفيروس الروسي «نوت بيتيا»، الذي انتشر بالأساس لمهاجمة البنية التحتية المصرفية الأوكرانية، ثم انتشر إلى مختلف أرجاء الإنترنت.
كما أن هناك مسائل متشعبة كذلك. فكما ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» في ديسمبر الماضي، من بين العناصر التي أدت إلى إبطاء الانتقام السيبراني ضد روسيا، كانت حالة اللبس حول ما إذا كان ذلك الانتقام يندرج تحت إشراف مستشار الأمن القومي الأميركي ماكماستر، أو تومك بوسيرت، المسؤول الكبير في البيت الأبيض والمسؤول عن ملفات الأمن الداخلي.
أخيراً، هناك احتمال حقيقي للغاية بالتصعيد. ولقد أشار الباحث جايسون هيلي، الخبير السيبراني من جامعة كولومبيا، إلى هذه النقطة، في مقالة له نشرت مؤخراً. إذ قال إن فلاديمير بوتين ينظر إلى تدخله في انتخابات عام 2016 الرئاسية من زاوية الرد على ما اعتبره الدور الأميركي في الكشف عن وثائق بنما، وهي مجموعة السجلات المصرفية السرية التي كشفت عن الثروات الخارجية المخبأة بواسطة عدد من كبار المسؤولين الحكوميين الدوليين، بما في ذلك بوتين نفسه.
ولقد أخبرني السيد هيلي أن مهمة صناع السياسات هي تحقيق التوازن الصحيح في التدابير السيبرانية ضد روسيا، والمتعلقة بالانتخابات المقررة خلال العام الحالي. وأردف يقول: «إن محاولة تحقيق هذا التوازن بشكل صحيح – لشيء ذي نزعة تخريبية بطبيعته وبدرجة تكفي لوقف الألاعيب الروسية، ولكن من دون إلحاق الأضرار الكبيرة تجعلهم يقررون الانتقام بصورة أكبر – هو ما ينبغي فعله».
وتكمن المشكلة في أن بوتين قد فاز بالفعل في المنافسة التي يصفها المخططون العسكريون الأميركيون بقولهم: «الهيمنة على التصعيد»، في الوقت الراهن. ولقد أثبت لهم بوتين استعداده للمضي قدماً في عام 2016 لأبعد من مجرد المنافسة السيبرانية التي أقيمت بين الولايات المتحدة وروسيا. ومن بعض النواحي، أظهرت روسيا بالفعل استعدادها للذهاب إلى ما هو أبعد من التفاهمات المؤسسة سلفاً بين الطرفين، بشأن الحرب السيبرانية في عام 2014، من حيث النشر العلني لمكالمة هاتفية من فيكتوريا نولاند، المساعدة السابقة لوزير الخارجية الأميركي، وحديثها إلى السفير الأميركي في أوكرانيا جيفري بيات.
ويقول هيلي إنه بمقدور بوتين أن يفعل ما هو أسوأ. وأخبرني قائلاً: «نحن في حالة غضب شديد، وإنني أحترم ذلك كثيراً». ولكنه أضاف أن الأمر يستحق التفكير في كيفية قيام روسيا بالتصعيد: «ماذا لو أنها قررت نشر البيانات الشخصية للأفراد العاملين في قوة المهام السيبرانية على الملأ؟»، ولن يكون الأمر عصياً على الجواسيس الروس للحصول على تلك المعلومات. وفي عام 2015 اخترق القراصنة الصينيون السجلات الشخصية لأربعة ملايين موظف أميركي في الحكومة، من مكتب إدارة شؤون الموظفين، وهي الوكالة الحكومية المعنية بالاحتفاظ بسجلات التصاريح الأمنية للحكومة الأميركية، من بين أمور أخرى.
ولا يعد شيء من ذلك مبرراً لعدم اتخاذ الإجراءات. فلا بد من كشف وتعطيل مزارع المتصيدين والقراصنة الروس. كما ينبغي تعزيز نظم التصويت الحكومية قبل انتخابات التجديد النصفي المقبلة. غير أن الحرب السيبرانية من الحروب المعقدة. وهناك أسباب وجيهة وراء رغبة الإدارة الأميركية في المضي قدماً بكل حذر وعناية على هذا المسار، حتى لا يتصاعد الأمر إلى مستوى الحرب السيبرانية المفتوحة مع روسيا.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»