عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

... وهل الهجرة سبب كل المشاكل؟

«مشكلتي مع الهجرة أننا نفتح أبوابنا للناس الخطأ... نستقبل مسلماً قد يكون إرهابياً، وأناساً من أفريقياً لا ينتمون إلى هنا، ويجلبون المشاكل».
هذا ما قاله مواطن إيطالي في خضم الجدل حول موضوع الهجرة الذي طغى على انتخابات إيطاليا التي جرت الأحد الماضي بعد حملات مشحونة بالغضب على مؤسسات الحكم، وعلى الاتحاد الأوروبي الذي يرى كثير من الإيطاليين أنه تخلى عنهم وتركهم يواجهون أعباء وتبعات موجات الهجرة المقبلة عبر البحر الأبيض المتوسط من أفريقيا وآسيا. القضية أصبحت أكثر سخونة، وتخللها نقاش اتسم بالعنصرية أحياناً بعد جريمة قتل شابة إيطالية في الثامنة عشرة من العمر والتمثيل بجثتها نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، واعتقال الشرطة مهاجراً نيجيرياً بشبهة قتلها. فقد تحول الموضوع من جريمة قتل فردية بشعة إلى جدل واسع حول الهجرة خصوصاً بعدما قام رجل ينتمي إلى اليمين المتطرف (الفاشيون الجدد) بإطلاق الرصاص على ستة مهاجرين أفارقة، وقيل إنه أقدم على ذلك رداً على جريمة قتل الفتاة.
الحقيقة أن الجدل حول موضوع الهجرة لم تشعله الانتخابات وإن غذته، كما أن القضية ليست قاصرة على إيطاليا وإنما تشغل العديد من الدول في أوروبا وغيرها، ويتوقع أن يزداد الجدل حولها مستقبلاً في ظل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية وحركة السكان من المناطق الفقيرة، وتلك التي تشهد حروباً وأزمات سياسية أو مناخية. ففي بريطانيا مثلاً كان موضوع الهجرة قضية أساسية في حملات الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، كما أنه كلف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خسائر كبيرة في الانتخابات الأخيرة بعدما فتحت الباب لاستقبال ما يزيد على مليون من طالبي اللجوء منذ عام 2015 وحتى اليوم. ولا ننسى هنا أن موضوع المهاجرين كان بنداً أساسياً في حملات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي رفع شعار «ابنوا الجدار» على الحدود مع المكسيك، وانتقد استقبال اللاجئين السوريين، كما تبنى تقييد دخول القادمين من عدد من الدول الإسلامية بزعم الوقاية من الإرهاب.
السؤال: هل الهجرة مسؤولة عن كل المشاكل التي تواجهها هذه الدول وبالذات على صعيد الاقتصاد والبطالة، أم أنها شماعة يسهل استخدامها لتبرير مشاكل مستعصية وللعب على عواطف الناس خصوصاً في فترات الانتخابات؟
الهجرة ظاهرة عرفت منذ الأزل، سواء في الحركة الطوعية أو القسرية للبشر أو بالغزوات. الأوروبيون أنفسهم كانوا المهاجرين الأساسيين إلى أميركا الشمالية والجنوبية وإلى أستراليا ونيوزيلندا، ونظروا دائماً إلى تلك الهجرات بشكل إيجابي. وخلال القرن الماضي استقدمت دول مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا الكثير من المهاجرين للعمل فيها وسد الحاجة إلى «العمالة الرخيصة» والنقص في بعض القطاعات. صحيح كانت هناك مشاكل اجتماعية مثل العنصرية، لكن الهجرة ككل كان يتم التعامل معها بإيجابية وكضرورة اقتصادية، ولم تصبح قضية سياسية جدلية بشكل واضح إلا بعد الستينات من القرن الماضي، نتيجة للمشاكل والتحولات الاقتصادية ونمو البطالة وبروز قضية التعايش والاندماج.
الهجرة أصبحت شماعة يسهل استخدامها وقت الأزمات الاقتصادية، لكنها بالتأكيد ليست مسؤولة عن جل هذه الأزمات. فالميكنة والأتمتة ثم دخول الكومبيوتر والإنترنت والذكاء الاصطناعي في قطاعات العمل والصناعة أحدثت تغييرات هيكلية أساسية، وأدت إلى انقلاب في سوق العمل وأسلوب حياة الناس. فعلى سبيل المثال كانت شركة جنرال موتورز الأميركية في الخمسينات من القرن الماضي أكبر مصنع للسيارات في العالم وبلغ عدد موظفيها وعمالها آنذاك 577 ألفاً. لكن بحلول عام 2010 انخفض عدد العاملين في الشركة إلى أقل من النصف (204 آلاف موظف وعامل)، ثم إلى 180 ألفاً في العام الماضي. كان ذلك بسبب التحولات في صناعة السيارات والأتمتة المستمرة حتى أصبحت الروبوتات تؤدي جانباً كبيراً من العملية الإنتاجية. كذلك تراجعت حصة الشركة في السوق الأميركية من 50 في المائة إلى 20 في المائة بسبب المنافسة من الشركات اليابانية والألمانية.
هذا مجرد مثال واحد من أمثلة كثيرة جداً لا تشمل الصناعات الثقيلة فقط، بل تمتد إلى مختلف جوانب العمل من الزراعة إلى القطاع المصرفي، ومن المواصلات إلى الإعلام، إلى مختلف المجالات التي تغيرت بسبب التقنيات الحديثة وتقلصت فيها العمالة، لا بسبب المهاجرين، وإنما نتيجة للتطورات في أساليب العمل والإنتاج. وعندما يخرج بعض الناس اليوم ليلقوا باللوم على الهجرة مثلما حدث في الانتخابات الإيطالية الأخيرة وغيرها، فإنهم يتخذونها شماعة سهلة يعلقون عليها مشاكل لا يملكون حلولاً حقيقية لها. فحتى لو تم طرد كل المهاجرين فإن ذلك لن يحل الأزمات الاقتصادية الراهنة، ولن يخلق فرص عمل اختفت بسبب التحولات التقنية. العالم بالتأكيد لا يحتاج إلى سياسات الانكفاء وغلق الأبواب وبناء الأسوار، بل إلى المزيد من الانفتاح المدروس والتبادل التجاري والاقتصادي والمعرفي... والبحث عن حلول للمشاكل والحروب التي تدفع بالمزيد من الناس إلى ترك بلدانهم بحثاً عن أمن أو مأوى. فالهجرة يمكن وضع ضوابط لها، لكن لا يمكن وقفها تماماً، لأنها كانت ظاهرة ملازمة للبشرية منذ القدم... وأسهمت في فترات كثيرة في الازدهار.