د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

حول واقع يتغير إيجابياً بسرعة

من يقرأ الصحف المصرية خلال الأسبوع الماضي سوف يجدها ممتلئة بالمقالات عن زيارة الأمير محمد بن سلمان، ولي عهد المملكة العربية السعودية إلى مصر. كان طبيعياً بالطبع أن تقوم الصحف بتغطية زيارة الأمير لمصر، وبخاصة أنها حفلت باهتمام رئاسي كثيف، فضلاً عما احتوته الزيارة من أخبار تفرض نفسها على «مانشيتات» الصحف من أول إعلانه امتداد مشروعه عن مدينة «نيوم» إلى مصر، وحتى زيارته للكاتدرائية القبطية في القاهرة ولقائه بالبابا تواضروس في زيارة هي الأولى من نوعها في العلاقات المصرية - السعودية. وما بين هذه وتلك، كان قدوم الأمير ولقاؤه بالمسؤولين المصريين، حافلاً بالكثير من الأنباء السعيدة، التي كما قيل ولدت الكثير من الطاقة الإيجابية لدى المصريين، وفيما أظن لدى السعوديين أيضاً. لكن الاهتمام تعدى ما هو معتاد وما هو واجب، فقد امتلأت الصحف بأعمدة ومقالات كان الترحيب فيها بالأمير جامعاً، لكن أكثر من ذلك متفائلاً، وفيها الكثير عن مستقبل مختلف للعلاقات المصرية - السعودية.
كان الفارق هذه المرة عقلانياً بقوة نتيجة قرابة ثلاث ساعات من اللقاء مع الأمير في منزل السفير أحمد القطان، الذي دأب على دعوة المثقفين والكتاب والإعلاميين المصريين بصورة دورية إلى حوارات سياسية وأدبية في صالونه «رياض النيل» الذي خلف صالوناً سابقاً تحت اسم «مجلس الأربعاء» الذي عقده السفير السعودي السابق - رحمه الله - هشام الناظر. ورغم أن لقاءات «رياض النيل» كانت لمتحدثين مصريين، فإن كافة المثقفين والمسؤولين السعوديين مروا عليه في وقت أو آخر؛ وهذه المرة حضر 32 من رواد الصالون، معظمهم من المترددين بانتظام مضافاً إليهم مجموعة من «نجوم» «البرامج الحوارية» الذين كان عليهم توفيق أوضاعهم بين لقاء الأمير، والسباق إلى الاستوديوهات في موعد بث البرامج. حضورهم على أي حال خلق ألفة في لقاء ولي العهد؛ فقد كان يعرفهم جميعاً تقريباً. المعضلة كانت كيف يمكن لهذا العدد أن يسأل الأمير أو يناقشه، وقد حاول كل منهم، فيما أعلم، من قبل أن يحصل على مقابلة صحافية أو تلفزيونية خاصة، بعد أن نجحت معه الصحافة الغربية من توماس فريدمان إلى «بلومبيرغ» إلى غيرهما في الحصول على حديث كان دوماً يلفت الأنظار.
لم تكن القضية إجراء حديث صحافي مع ولي عهد السعودية، لكنها كانت لأنه بات رمزاً لحدث كبير يتعلق بتحديث المملكة، والقيام بإصلاحات لم يكن لأحد في العالم يتصور إمكان حدوثها. دول كثيرة في العالم مرّت بمثل هذه الحالة من الإصلاح، لكن هذه كانت تتعلق بالاقتصاد أو السياسة أو بتغيير النخبة الاقتصادية أو السياسية؛ أما أن يكون الأمر كل ذلك وفوقه الثقافة والتجديد الديني، فإن الجرعة من الناحية الصحافية تصير مبهرة. المصريون يعتقدون اعتقاداً عميقاً أن تحديث مصر بدأ منذ ولاية محمد علي عام 1805، واستمر في الصعود والهبوط حتى آخر فصوله مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي كان الأكثر جذرية فيما يتعلق بالاقتصاد والمجتمع في علاقته مع الدين والأقباط والمرأة. في السعودية كانت المهمة أكثر صعوبة وتعقيداً؛ نظراً لتاريخ المملكة المحافظ، ولعلها لم تكن صدفة أن بداية حديث الأمير كانت فيما سماه «استعادة» الدين إلى أصوله الرحبة التي تفسح ولا تضيق، وتفتح ولا تغلق، وتضيء ولا تظلم. كان لدى الأمير رواية مقنعة لتاريخ الحالة التعيسة التي وصلت إليها الأمتان العربية والإسلامية التي جعلت من عام 1979 عاماً فارقاً جرى فيه الغزو السوفياتي لأفغانستان، والثورة الإيرانية، والاعتداء على الكعبة المشرفة من قِبل إرهابيين متطرفين. في هذا العام الفارق حدث في مصر نوع من المهادنة مع التيارات الدينية لـ«الإخوان» وغيرهم من الجماعات التي اغتالت الرئيس السادات. فإذا كان هذا العام التعيس 1979 هو ما غيّر مجتمعاتنا، فهل يكون العام 2017 ثم 2018 هما زمن التحولات الكبرى في اتجاه الإصلاح فبين هذين العامين تحقق الاستقرار في مصر وتعزز البناء والتنمية، وجرت هزيمة خلافة «داعش» المزعومة، وفشل الإيرانيون في تحقيق مبتغاهم من اليمن؛ فالحكومة اليمنية الشرعية هي التي تتحكم في 90% من البلاد، هكذا تحدث الأمير.
أمام 32 من أهل «المُتَكلمة» المصريين نجح ولي العهد في جعل شبابه وتدفق كلماته ومنطقه ودبلوماسيته إذا لزم الأمر، عندما بدأ التنازع عمن يكون له حق الكلام، مركزاً للمجلس المتسع. أولاً لأن قصة الأمير عن التغيير في المملكة كانت مفرحة؛ وثانياً لأن شهادته الإيجابية عما رآه يجري في مصر على أرض الواقع كانت مبعثاً للسرور؛ وثالثاً أن الشهادة عن العلاقات المصرية - السعودية كانت تدعو إلى الحماس؛ ورابعاً أن الأمير كان مفعماً بطاقة إيجابية ليس فقط عن الحاضر، وإنما عن المستقبل أيضاً. هذه النقطة الأخيرة بالغة الأهمية؛ فهو لم يكن يتحدث عن إدارة الفقر، وإنما عن إدارة الثروة التي يراها طائلة على الجانبين المصري والسعودي؛ كما أنه لم يكن يرى المنطقة باعتبارها ضحية حالة من الدول الفاشلة، وهيمنة إيرانية على عواصم عربية، واختراقاً أجنبياً ودولياً لأرض العرب؛ وإنما كان يراها في إطار حالة الارتباط العربي بين مصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين، والأردن، والمغرب، والجزائر وتونس، ومعهم إعادة البناء التدريجية والحكيمة للعراق. لم يكن الأمير يتحدث عن نصف الكوب الممتلئ وليس الفارغ، وإنما كان يطرح أن ما لدينا من مال وطاقة وماء ونفط وغاز ومال فوق الأرض وتحتها، مع القيادة القادرة والفاعلة، تجعل توازن القوى في صالح البناة والإصلاحيين والمعتدلين العرب. كل الأمور توضع لدى الأمير في حجمها، فحالة قطر ليست بأزمة كما تردد الدوحة، وفي حجمها فإنها لا تستحق في إدارتها أكثر من موظف، أقل من وزير!
كما أن وصفه النظام العربي الحالي، يؤكد أن ما طرح عن «المنظومة» أو الائتلاف العربي لم يعد حلماً لكاتب، وإنما واقع يترجم إلى خطوات وبرامج. كل ذلك كان يشكل أخباراً سعيدة في دنيا اعتادت على كثرة من الأخبار التعيسة، وفي مثل هذا الحال الجديد فإن الخيال ينطلق، والآمال تكثر، والأحلام تزدهر، والتوقعات تتضاعف؛ وكلها لا بأس بها اللهم إلا إذا عرفنا كيف نحشد وراءها ظهيراً شعبياً يؤازرها ويحميها ويدافع عنها من الإحباطات والكوابيس، ونخبة فكرية تعرف كيف تجعل الحالة مستدامة بما تولده من أفكار واستراتيجيات. كانت زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد لمصر زيارة مباركة، ولقاؤه مع جماعة من النخبة المصرية فتحاً لعيون كثيرة على واقع يتغير إيجابياً بسرعة.