خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

خذ الحكمة من المهرج

اعتاد ملوك أوروبا وأمراؤها أن يضموا إلى حاشيتهم شخصية ظريفة هي شخصية المهرج clown الذي كان يلبس ملابس مزوقة مضحكة ويضع على رأسه أجراساً ويتظاهر بالجنون والغباء والوقاحة. جرت العادة على منحه حرية مطلقة فيما يقول وما يفعل ويتجول في القصر والبلاط دونما قيد. يصاحب الملك حيثما يذهب ويجلس قريباً منه ليؤنسه بتعليقاته الظريفة ونكاته البارعة، التي تتضمن في كثير من الأحيان مواعظ بليغة. فقد كان غالباً ما يتمتع بثقافة غزيرة. نجد أمثلة كثيرة من شخصية المهرج في مسرحيات شكسبير، حيث استغلها المؤلف ليلقي على المشاهدين حكمياته ومواعظه وطرائفه.
كان من ألمع المهرجين في عهد النهضة الأوروبية تريبوله الذي دخل في خدمة ملك فرنسا، فرنسوا الأول الذائع الصيت في القرن السادس عشر. كان فرنسوا الأول في نزاع شديد مع الإمبراطور شارلكان. ولكن الإمبراطور وجد نفسه مضطراً ذات يوم لاجتياز فرنسا للوصول إلى مملكة هولندا. فالتمس من الملك الفرنسي أن يأذن له بذلك ويعطيه «الرأي والأمان» في المرور. تأمل الملك في الموضوع ولكنه لم يجد بُداً من إعطاء الإمبراطور ذلك الإذن. فسمع تريبوله بذلك فأخرج دفتره الخاص الذي كان يدون فيه أسماء المجانين الذين عرفهم. فتح الدفتر وأضاف إليه اسم الإمبراطور شارلكان.
لاحظ فرنسوا الأول ذلك فسأله عما فعل وماذا قصد به، فأجابه موضحاً عمله وقال: «إذا أنت اعتقلته يا صاحب الجلالة فها أنا قد أضفت اسمه إلى المجانين، وإذا تركته يجتاز فرنسا فسأمحو اسمه حالاً وأضع اسمك مكانه».
بالطبع كان سلوك المهرجين وسلاطة لسانهم كثيراً ما يغيظ أعضاء الحاشية الملكية. وهو ما شعر به أحدهم تجاه تريبوله فمسك بيده وهدده بأنه سيجلده حتى الموت على ما قاله له.
أفلت المهرج من يده والتجأ إلى الملك ليحميه فقال له: إذا تجرأ أحد على قتلك فسأشنقه بعد ربع ساعة.
وهنا التفت المهرج إلى الملك وقال: يا مولاي اجعلها قبل ربع ساعة!
كان فرنسوا الأول على درجة كبيرة من الثقافة ورفعة الذوق. تعجبني منه بصورة خاصة كلمته عن الرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي، وهي كلمة خلدت في عالم الفن والأدب.
دعا ملك فرنسا الرسام الإيطالي إلى زيارته لإنجاز بعض الأعمال الفنية. وفي أثناء ذلك مرض الفنان فحرص الملك على زيارته صباح كل يوم في غرفته. وحدث أن جاء أحد النبلاء لمقابلة الملك فتركه هذا ينتظر وذهب لزيارة دافنشي على عادته. استغرب رئيس التشريفات من ذلك فنبه الملك إلى مجيء ذلك النبيل الارستقراطي. ولكن فرنسوا الأول أجابه بهذه الكلمات التي خلدها التاريخ. قال:
«بوسعي أن أصنع النبلاء بالعشرات، ولكنّ فناناً عبقرياً مثل دافنشي فالله وحده يستطيع صنعه»!