راجح الخوري
كاتب لبناني
TT

أهم صانع للتطوير… والعناوين!

قبل أن يعلن البيت الأبيض مساء الثلاثاء الماضي أن الرئيس دونالد ترمب سيستقبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في 20 مارس (آذار) الحالي، كانت الحكومة السعودية تعلن موافقتها على الخطة الوطنية لبرنامج الطاقة الذرية، وفق سياسة واضحة تنص على حصر كل الأنشطة التطويرية الذرية في الأغراض السلمية، وفي حدود الأطر والحقوق التي حددتها التشريعات والمعاهدات والاتفاقيات الدولية. لكن الأمير محمد أكد ان السعودية ستذهب الى إنتاج القنبلة النووية بأسرع وقت إذا فعلت إيران ذلك.
وقبل أن يعلن البيت الأبيض هذه الزيارة كان ترمب قد أجرى اتصالاً هاتفياً مع الأمير محمد بن سلمان، ناقش التطورات الإقليمية، وسبل تعزيز التعاون الخليجي لمواجهة التدخل الإيراني في المنطقة، وكذلك الفرص الإقليمية لتعزيز الشراكة الأميركية - السعودية، خصوصاً في ظل المشروعات الكبيرة والهادفة التي يدفعها ولي العهد على خطين؛ الأول هو تطوير الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل تمهيداً لمرحلة ما بعد النفط، والآخر تطبيق سياسة مدروسة للانفتاح والعودة إلى الإسلام المعتدل، وإسقاط الظروف التي أملتها الثورة الإيرانية على المنطقة من التعصب والتطرف والفوضى.
واضح أن زيارة ولي العهد هي محط ترقب واهتمام البيت الأبيض، بدليل أن اتصال ترمب جاء في بداية مارس متلازماً تقريباً مع زيارتي ولي العهد الناجحتين إلى مصر ثم بريطانيا، والأمر هنا لا يتعلّق تحديداً بقرار السعودية تسريع خططها لبناء 16 مفاعلاً نووياً خلال العقدين المقبلين، وبكلفة تصل إلى 80 مليار دولار تريد الولايات المتحدة طبعاً أن تحظى بهذه العقود فحسب، بل لأن قواعد العلاقات السعودية الجديدة مع العالم الخارجي، ترسم مساراً حداثياً مهماً على المستويات الإقليمية والدولية، وكانت الوقائع التي رافقت زيارة ولي العهد إلى بريطانيا خير معبّر عنه.
كانت المقدمات واضحة تماماً عندما كتب وزير الخارجية بوريس جونسون مقالاً بعنوان «مستقبل السعودية والمنطقة والعالم الإسلامي يعتمد على نجاح الأمير محمد بن سلمان في مسعاه»، وهو المسعى المعروف، حيث يعكف ولي العهد على إرساء عقد اجتماعي اقتصادي جديد للمملكة، عبر مشروعات طموحة وعملاقة هدفها التحديث والتطوير الاقتصادي، مثل مشروع «نيوم» و«رؤية 2030»، والعودة إلى الإسلام السمح والمعتدل والمنفتح على كل الأديان والعالم، وفتح نوافذ الحداثية؛ ولهذا خلص جونسون إلى التأكيد حرفياً «يجب ألا يكون لدينا أي شك في أن مستقبل السعودية، بل والمنطقة والعالم الإسلامي عموماً، يعتمد بكل تأكيد على نجاح الأمير محمد بن سلمان».
لم تكن الحفاوة المطلقة التي رافقت زيارة ولي العهد إلى بريطانيا الأولى من نوعها، ففي زيارته السابقة إلى الولايات المتحدة قرر ترمب مثلاً تجاوز قواعد البروتوكول عندما استدعى طاقم عمله وكبار مساعديه للاستماع إلى الأمير محمد على حفل غداء، ولا داعي هنا إلى التذكير بوقائع تلك الزيارة الحافلة التي جمعته مع رجال الكونغرس وحملته متجولاً ومناقشاً عمالقة شركات الاتصال في سيليكون فالي، التي يريد على ما يبدو استنساخ نموذج منها في إطار مشروع «نيوم» الذي سيقيم جسراً بين السعودية ومصر والأردن، يزاوج بين تحديث وسائل الاتصالات والابتكار وبين قيام بيئة ريفيرا على البحر الأحمر.
في غضون ذلك، لا تزال الآثار الإيجابية المهمة والهادفة التي رسمها قرار ولي العهد التاريخي القيام بزيارة الكاتدرائية المرقسية، حيث استقبله البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية في المقر البابوي، محط إعجاب وثناء عالميين من منطلق حرصه على أن يقرن القول بالفعل، عندما أكد الشواهد التاريخية للتعايش والتراحم بين المسلمين والأقباط، مجدداً التأكيد على أهمية التعاون الإسلامي المسيحي في وأد الفتن واستقرار المجتمعات والأوطان: «والواقع أن الأقباط عزيزون على كل مسلمي العالم»، ليرد البابا بالقول «هذه زيارة تاريخية غالية جداً علينا وهي أول زيارة للكنيسة القبطية في مصر، هي سعادة لكل المصريين والعلاقات الطيبة بين مصر والسعودية لها جذورها التاريخية، وسلامتها هي سلامة لكل المنطقة».
وعلى الهامش الروحي أيضاً، أراد ولي العهد رسم خط مهم موازٍ للتفاهمات السياسية، فبعد وصوله إلى بريطانيا حرص على زيارة رئيس أساقفة كانتربري جاستن ويلبي في قصر لامبث؛ وهو ما أضاف بعداً تاريخياً؛ لأن المبادرة شكّلت رسالة سلام وتسامح، على ما أجمعت التعليقات الغربية.
كان الحبور وملامح الإعجاب والترحيب الحماسي باديين على وجه الملكة إليزابيث الثانية عندما استقبلته، وأقامت حفل غداء على شرفه في قصر باكنغهام، كما أقام ولي العهد الأمير تشارلز حفل عشاء تكريماً له، ثم كانت المحادثات وحفل الغداء مع رئيسة الوزراء تيريزا ماي، التي تعمدت الإشادة بالدور السعودي البنّاء، «والذي ساعدنا في إنقاذ أرواح بريطانية كثيرة من خلال مكافحته الناجحة للإرهابيين ورصد خططهم».
في حديثه إلى «التلغراف» البريطانية، كان الأمير محمد واضحاً في التأكيد على «أننا نريد أن نحارب الإرهاب، ونريد أن نحارب التطرف لأننا في حاجة إلى بناء الاستقرار في الشرق الأوسط، نريد نمواً اقتصادياً سيساعد المنطقة على التطور، وبسبب موقفنا المهيمن فإن السعودية هي مفتاح النجاح الاقتصادي في المنطقة».
كانت زيارة تاريخية بكل المقاييس، ليس هذا توصيفاً من صناعة الإعلام السعودي، بل إفاضة من وسائل الإعلام والصحف البريطانية في الإشادة بالزيارة، فبعدما نوّهت «إيفننغ ستاندارد» بلافتات الترحيب قالت: إنه الرجل الذي يأتي بالتغيير إلى السعودية، لكن «ديلي تلغراف» رأت أنه ليس من المعتاد أن تثير زيارة مسؤول غير رأس الدولة مثل هذا الاهتمام «لكن محمد بن سلمان ليس ولي عهد السعودية فحسب، بل الشخصية الأكثر أهمية في كل منطقة الشرق الأوسط؛ لأن لقراراته أهمية كبيرة على مستقبل المنطقة والعلاقات مع العالم»، في حين وصفته مجلة «تالتر» بأنه «أهم صانع للعناوين الإخبارية حول العالم».
الصحافة الأميركية كانت على الخط، ومن أبرز التقارير التي استمعنا إليها ما قالته «سي إن بي سي» من أن ثقل السعودية الدبلوماسي والاقتصادي يجعلها بلداً في غاية الأهمية، إلا أنها ليست بلداً يُملى عليه؛ إنها تتمتع باستقلالية تامة في قراريها السياسي والاقتصادي، ورغم تخوّف البعض من التحولات الكبيرة التي يقودها الأمير محمد بن سلمان، يجب الاعتراف بأن معظم ما قام به حقق نتائج مهمة عززت من مكانة السعودية دولياً.
وهنا أتذكّر مقال ديفيد إغناتيوس في «واشنطن بوست»، عن دينامية ولي العهد الذي استقبله عند منتصف الليل وبعد يوم حافل ليجده ساهراً وفريقاً من معاونيه على متابعة المشروعات الطموحة، التي تحظى بدعم حماسي من مجتمع سعودي شاب، 70 في المائة منه دون الثلاثين من العمر يقف وراءه.
أكثر من عشرين لقاءً مع المسؤولين في بريطانيا خلال 24 ساعة؛ وهو ما دفعني إلى الكتابة في زاويتي في «النهار»: «ألا يتعب محمد بن سلمان؟»… لهذا أقول الآن لمساعديه: استعدوا للركض فهو ذاهب إلى الولايات المتحدة.