سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

مفرقعات نسائية

غمز البعض بوفاة الأديبة أملي نصر الله من قناة كلاسيكيتها. فالسيدة الدمثة كان لها من الرصانة والهدوء، ما لم يسمح لها بالتكلم كما أخريات عن «جنون» و«شطحات»، و«هواجس» و«مغامرات» و«عشاق» و«رسائل سرية». ولكل مزاجه والزاوية التي يرى منها إلى العالم حين يكتب أدباً، أو يخطط لمشروع. الفرق بين أملي نصر الله وثائرة مثل نوال السعداوي أن الثانية لم تكن قادرة، ربما على اجتياز العقبات، دون تحطيم وطلاق ومواجهات عالية الصوت، وفضلت الأولى أن تتسلل من بين النقاط لتصل إلى بر الأمان بنفسها ومن حولها.
والأديبات أنواع ومناهج وقناعات، فمنهن من استغلت أنوثتها لتفجر قنبلتها حول الاضطهاد الذي عاشت والقهر الذي عانت. وبينهن من أرهقها التمييز ونصبت لها فخاخ المكائد ولم تلِن، وتعففت عن استخدام سلاح النسوية الرائج في «الماركتينغ» لتبيع أكثر.
لم يكن ينقص أملي نصر الله من النضال ما تباهي به قريناتها المتمردات، وآثرت جعل كل عائق حافزاً، وما جابهته مجرد حياة عادية، سارت فيها إلى منتهاها راضية النفس، غير متأكدة أنها فعلت ما يستحق عناية الآخرين. ومؤثر أن تنشر بعد خمسين سنة من صدور روايتها الأولى «طيور أيلول» في كتابها الأخير «الزمن الجميل» نصاً عن تلك الغرفة التي أعارتها إياها صديقتها الناشرة والكاتبة أنجيل عبود في بناية «اللعازيه» المعروفة وسط بيروت، لتلجأ إليها بضع ساعات في اليوم هاربة من أثقالها الصحافية وأحمالها المنزلية، كمن يهرب إلى كهف بعيد، يحتمي به من ضجيج الكون إلى سكون النفس وطمأنينتها ليخرج ما في ذاته بعيداً عن الطفيليين. وفي إشارة إلى تأثرها بفرجينيا وولف، التي لا بد كاتبات كثيرات استلهمنها سطرت نصر الله «حين كتبت الأديبة البريطانية كتابها (غرفة من أجلها) عام 1928، عالجت فيه مشكلة المرأة الكاتبة وعدم توفر غرفة خاصة بهاز
كانت تكتب عن كل امرأة تحمل قلماً في زمانها وفي كل زمان». وهو ما يذكر بما سطرته هدى بركات عن تجربتها الروائية، لنكتشف أنها في حميماتها لا تبتعد كثيراً عن زميلتها نصر الله في الافتقاد إلى ترف التفرغ والعزلة اللتين تحتاجهما القريحة، لتسبح في خيال الشخصيات، وحياكة الأحداث والسير في خط الرواية. وفي غمار حديث بركات عن التهجير الذي عاشته خلال الحرب اللبنانية من شقة إلى أخرى تحت القصف: «كانت الأماني هي أن أجد ولو القليل من أغراض البيت، وبخاصّة أغراض الولدين التي احترقت أو تكسّرت تحت أنقاض البيوت العديدة»، فيما لم يكن حمل مخطوطة رواية من مكان إلى آخر في كيس نايلون غير «بذخ غير وارد، ولزوم ما لا يلزم من الأولويّات».
ومن قال إن الأدب يأتي قبل الخبز والأمن إما أنه يكابر وإما يمالق قراءه، ولبركات من الشجاعة ما يجعلها تعترف ولا عيب في ذلك «حتّى اليوم (كلّ) شيء في حياتي يأخذ مكانه قبل الكتابة. أقصد كلّ الواجبات... الدنيويّة، تلك التي تعتبر تافهة. يوميّة وآليّة وميكانيكيّة وسخيفة. ربما لأن هذه (التفاهة) هي ما يمدّني بخفّة التحميل».
ولأملي نصر الله فضيلة أنها عاشت ما كتبت. فحين أقرأ «أنا أحيا» اليوم، وهو لواحدة من أشهر الأديبات تحرراً مثل ليلى بعلبكي، تعرضت للمحاكمة، ونفت نفسها طوعاً، لقولها إنها لم تكن قادرة على احتمال الضغط الذي تعرضت له، نسأل أنفسنا، كم من الوقت سيبقى هذا النص صامداً في الزمن، بعد سيل النصوص النسائية الجريئة لا بل والإباحية التي غزت الرواية العربية في السنوات العشر الأخيرة، ومن منهن ستنال حظ الاستمرار في ضمير الناس، كما ألهمت فرجينيا وولف نساء العالم أجمع وبينهن القاصة المغربية لطيفة فاقا التي عنونت مجموعتها القصصية الأخيرة باسمها ومن وحي غرفتها. وفي «تيت مودرن» في لندن هذه الأيام معرض تشكيلي يجمع لوحات رسمت تحت تأثير كتابات هذه البريطانية الفذة أو حتى قبل مولدها، ليفهم الناس السياق الذي كتبت فيه، وشكّل رؤيتها البانورامية، وهي تشرّح، مدى أصالة كل كاتبة امرأة تقع كتبها تحت يدها. وتقوم كل نظرية وولف على فكرة أن على النساء أن يكن صادقات في مرجعيتهن ويعرفن جيداً، أن بعض ما يركنّ إليه في كتاباتهن هو صنع رجالي، ومن الخطأ ألا يفعلن سوى تبنيه وإعادة كتابته بطريقة مغايرة.
«فالكتاب ليس كناية عن جمل مرصوفة بجانب بعضها البعض، لكنه جمل مبنية على هيئة قباب وممرات مسقوفة، وحتى تلك الممرات قام بصنعها رجال، تبعاً لاحتياجاتهم واستخداماتهم الخاصة». المهمة الملقاة على كاهل النساء صعبة وعلى العربيات منهن الواقعات بين مطرقة موروث أمهاتهن، وإغراء الحداثة أصعب، لكن يبقى عليهن أن يتذكرن جيداً «أن القرد أبعد من أن يكون مجتهداً مثابراً». فبعض أديباتنا بحجة التحرر يعدن إلى قفص جعل الرجل، وإن على طريقتهن الخاصة، محور رواياتهن، إن بتحميله سبب الإخفاقات، أو بجعله مركز الإغراءات.
والتقسيم ليس بين أديبة تقليدية، وأخرى ثائرة، فبعضهن لم يتمردن إلا في تدبيج النظريات، بينما يعشن في يومياتهن تناقضاً فادحاً، عما يبشرن به. وإن كان ذكر الأسماء لا يزال يثير حساسية، فالزمن كفيل بمراجعة السير وما اقترن بها من أدبيات بقيت حبراً على ورق. ويكفي أملي نصر الله أنها كتبت من دون استعراضية ومفرقعات صوتية، وهي تشد أزر المستضعفين والفقراء البائسين، وساندت النساء، ووصلت إلى الأطفال حين لم يكن يتنازل ويلتفت إلى هذه الفئة اليانعة أديب، وكانت رائدة في تدبيج نصوص للناشئة يوم عزّت الكتابة لهم، وجالت في الأرض سفراً ووصفاً، واحتضنت الإنسانية حباً، وتركت كتباً خضراء تنتصر للحقول والفلاحين، والأرض قبل «حزب الخضر» و«منظمة غرينبيس».