ليونيد بيرشيدسكي
TT

الذكاء الصناعي لن يحل محل العقل

تعد شركة «نكتوم» بالحفاظ على عقول الأفراد الذين يعانون داءً لا براء منه من أجل تحويلها إلى برامج محاكاة عبر أجهزة الكومبيوتر، وذلك في نقطة ما في المستقبل عندما يصبح هذا الأمر ممكن الحدوث. ورغم أن هذه مجرد شركة ناشئة من السهل أن تتحول لهدف السخرية والاستهزاء، فإنه في ما وراء السخرية تكمن حقيقة مهمة تذكرنا بضرورة أن نبقى متشككين إزاء تكنولوجيا الذكاء الصناعي الحديثة.
وتشتهر الفكرة الأساسية وراء «نكتوم» في أوساط المتحمسين تجاه فكرة «تحميل العقل» (في الواقع، ثمة ثقافة كاملة قائمة حول هذه الفكرة، مع توفير عدد من المؤسسات الثرية الدعم المالي للأبحاث في هذا الصدد) بـ«التحميل المدمر»؛ بمعنى أن العقل يجب قتله من أجل رسم خريطة له. وقد جذبت هذه الفكرة المروعة دعاية كبيرة لـ«نكتوم»، التي جرى بناؤها على أساس جهود سابقة لتجميد أجساد مليونيرات، بحيث يصبح من الممكن إعادتهم للحياة عندما تظهر التكنولوجيا القادرة على إنجاز ذلك. ومع هذا، نجد أن المشكلة الكبرى التي تواجهها «نكتوم» ليست أخلاقية بصورة أساسية.
جدير بالذكر أن الشركة طورت سبيلاً لتحنيط جميع الوصلات العصبية داخل المخ، التي يطلق عليها «كونيكتوم»، ويعتقد مؤسسو «نكتوم» أن الخريطة أهم عناصر المخ البشري الذي يعاد بناؤه، وأن الحفاظ عليه لا بد أن يبقي على جميع ذكريات الإنسان سليمة. ومع ذلك، فإنه حتى المتفائلين إزاء فكرة تحميل العقل يتوقعون أن ينجح الإنسان في إعادة بناء أول شبكة مؤلفة من 10 آلاف وحدة عصبية بين عامي 2021 و2024، إلا أنه حتى يومنا هذا لم ينجز الكثير على صعيد مثل تلك الجهود.
من جهته، قال سام غيرشمان، العالم المتخصص في المخ والأعصاب بجامعة هارفارد، في إطار تعليقه على قصة صحافية جديدة تناولت «نكتوم»: «ألم يخبرهم أي شخص بعد أننا عرفنا سي إليغانز كونيكتوم منذ أكثر من عقد، لكننا لم نتوصل إلى كيفية إعادة بناء جميع الذكريات التي تحويها؟ وهذا مجرد 7 آلاف تشابك عصبي فقط، مقارنة بتريليونات التشابكات العصبية داخل المخ!».
جدير بالذكر أن «سي إليغانز» يعتبر بمثابة دودة شديدة الضآلة، لا تتميز بذكاء خاص ولا تتسم الذكريات بها بالتعقيد. ومع هذا، فإنه «من المتعذر تحميلها». وتبعاً لما شرحه أنديرس ساندبيرغ، من معهد مستقبل البشرية التابع لجامعة أكسفورد، فإن الـ«كونيكتوم» البشري بمقدوره تخزين ما يصل إلى 10 بيتابايت من البيانات. ويتطلب الأمر نحو 283 ألفاً من مثل هذه الـ«كونيكتوم» لمضاهاة إجمالي حجم المعلومات التي تخزنها شبكة الإنترنت اليوم.
ومع هذا، فإنه على خلاف التوقعات الواثقة، الواردة بالموقع الإلكتروني لـ«نكتوم»، فإن الخريطة من المحتمل ألا تسمح بإعادة البناء الكامل للعقل البشري. ولا يزال الخبراء يتجادلون بخصوص كيفية تخزين الذكريات، ولا يعتقد كثيرون أن وحدات الـ«نكتوم» تصف جميع، أو حتى معظم، السبل التي يعمل من خلالها العقل البشري. ولا تقتصر المشكلة على عدم توافر تكنولوجيا إنتاج «كونيكتوم» بشري حتى اليوم، وإنما ثمة شكوك كبرى حول ما يتعين توافره من عناصر أخرى لتحقيق عملية «تحميل للعقل». على سبيل المثال، يحاول علماء رسم خريطة لنشاط الخلايا العصبية على مدار فترة من الزمن، وبالتالي لا تزال تفصلهم عقود عن رسم خريطة للعقل البشري ككل.
وتقف مثل هذه القضايا عائقاً حتى من قبل انتقال العلماء لإمعان النظر في قضايا فلسفية، مثل ما إذا كان العقل الذي جرى تحميله سيمثل الشخصية الخاصة بـ«المالك» الأصلي للمخ ذاتها.
وربما لا يشكل المخ البشري الصورة الأكثر كفاءة من الذكاء، خصوصاً أنه يحتاج إلى آليات دعم بيولوجي ضخمة لتعويض الخلايا التي تموت طوال الوقت، إلى جانب أن قدرته على تخزين البيانات ليست بمستوى جودة الكومبيوترات.
ومع هذا، يظل من المحتمل يوماً ما أن يتمكن الإنسان من محاكاة جميع التفاصيل الدقيقة في المخ، المرتبطة بالإدراك والذاكرة والعاطفة والغريزة.
موجز القول، إن إعادة بناء المخ البشري يشكل الهدف الأعظم الذي يسعى خلفه الذكاء الصناعي. وحتى هذه اللحظة، فإن أكثر الأصوات تفاؤلاً إزاء تحميل العقل ترى أن ذلك لن يتحقق سوى في المستقبل البعيد. ويكشف ذلك أنه رغم كل الضجة المثارة حول الذكاء الصناعي، فإننا نميل نحو التقليل من قدر الكومبيوترات الفائقة التي نحملها داخل جماجمنا.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»