محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

هروب من القواعد

كلما شهدت صالات السينما وخشبات المسارح وأوراق المطبوعات ولوحات الرسوم عملاً فيه خروج عن طبيعة أو تقليد معين، سارع البعض لاعتبار ذلك انتماء لمفهوم «ما بعد الحداثة». والكلمات الثلاث، تتكرر هذه الأيام في نقاشات ومداولات، ومؤخراً سمعتها في خطاب تقديم إحدى الحفلات الفنية، إذ قال الخطيب بكل ثقة: «هذا الحدث المهم ينطلق من عصر ما بعد الحداثة ليواجه تحديات الزمن الراهن».
في يقيني أن العديد استعاروا العبارة من دون فحص أو تحليل واستقبلها الآخرون كما لو كانت تعني أنها نقلة حضارية مواتية ومواكبة لا غنى عنها ولا مجال للتقدم من دونها. لكنها في الواقع بعيدة عن أن تقول نقلة في أي اتجاه سوى اتجاه من الفوضى الفكرية. هذا إذا ما استطاع الممارسون لها الوصول إلى مدارك الفكر ولم يكتفوا فقط بتقليد آخرين سبقوهم إلى ممارسة هذا المنوال. إنها ليست حرية ممارسة فن ما صوب تشييد لقواعد منسوجة من السابق بقدر ما هي فعل غائص في فهم انفرادي للذات والعالم.
العديد من الذين يبدون إعجابهم بمفهوم «ما بعد الحداثة» يأخذون من فلسفتها حيّزاً يشجعونه ويعتبرونه الاختلاف الإيجابي عن التقاليد، كما لو أن التقاليد هي مجموعة من المفاهيم البالية التي كان على الإنسان أن يغيّرها كما الموضة وتأخر. عدم تغييرها هو انطواء في الماضي. تغييرها هو تقدم للمستقبل.
«ما بعد الحداثة» مفهوم يستند إلى الخروج عن القواعد في الأعمال الأدبية أو الفنية تبعاً لفكرة تنطوي على هدم للذات وللمجتمع باسم حرية التعبير والتأسلب (الأسلوب) لأنها ليست حكراً على العمل الفردي وطريقة تحقيقه، بل هي المفهوم الكامل والشامل الواقف وراء المقتنعين بها. نظرة سلبية إلى العالم وغير انتقادية.
بعض المفكرين اليوم يعتبرون نظرية «ما بعد الحداثة» معادية للفكر. فلسفة تقوم على فعل الهروب ورفض القواعد التي صاغت فنوننا وآدابنا. أمر ينطوي على السعي للخروج من أي بنية فكرية وأسلوبية سبق للإنسان أن شيّدها في حقول المعرفة والفنون والثقافة على اعتبار أن فعل الخروج يضمن حرية التفكير والممارسة، وبالتالي يمنح المبدع النطاق الأوسع من حرية التعبير والفعل.
علاقة المفهوم بالانتقال ما بين العصور والأزمنة واختلاف السياقات محدودة وعلاقته بالتقدم الحضاري أقل من ذلك. الحكايات الشعبية كلها (وفي مقدمتها «ألف ليلة وليلة») انتقلت ما بين حاضر المتحدث (شهرزاد) وماضي الحدث (الحكايات) ومضت في حكايات دون أخرى في جوانب موازية، كل يدلف إلى آخر. لكن لا شيء من كل هذا العمل الأدبي الجميل له علاقة بمفهوم «الحداثة» ناهيك عن مفهوم «ما بعد الحداثة». ولا شيء منه ينتمي إلى الفوضى على اعتبارها ردّاً على القواعد والنظم.
إذ يمارس مفهوم ما بعد الحداثة اليوم على نحو شائع ويضيع البعض في تصنيفه ناهيك عن تعريفه، يتضمن قبول الواقع برفض مسبباته والخروج عن الأسس التي من خلالها شهد الإنسان أعلى إبداعاته الفنية صوب متاهة تلتقي والزمن الحاضر. باتت اللوحة البيضاء التي عليها بقعة سوداء في أسفلها عملاً فنياً ما بعد حداثي لمجرد أن الرسام يعتبرها كذلك. في حين أنها تكشف في الوقت ذاته عن عدم القدرة على تقديم إبداع يخرج من الذات ليساهم في نهضة ثقافية ما.