صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

«3 إمبراطوريات» تنهض مجدداً... والمستهدف منطقتنا العربية

ما أشبه اليوم بالأمس، وصحيح أن التاريخ يعيد نفسه، إما بصورة مأساة وإما بصورة ملهاة، والآن وقد مرّ قرن كامل على انهيار «إمبراطوريتين» هما السلطنة العثمانية وروسيا القيصرية، وكانت سبقتهما إيران الصفوية، فإن الواضح أن هناك محاولات حقّقت تقدماً بات يفرض نفسه على واقع هذه المنطقة العربية تحديداً لاستعادة ما كان قائماً قبل مائة عام، وللأسف فإن العرب، إنْ ليس كلهم فمعظمهم على الأقل، همْ من يدفع الثمن غالياً، والشاهد على هذا هو ما يجري في سوريا وفي العراق وفي اليمن... وأيضاً في لبنان وفلسطين وقد يمتد ليشمل بعض دول هذه الأمة في أفريقيا.
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى كانت لا تزال السلطنة العثمانية، مع أنها كانت توصف بـ«الرجل المريض»، تعتبر دولة عظمى لكنها ما لبثت أن انهارت وخسرت كل أملاكها التي خارج «جغرافيتها» الحالية، ويقيناً فإنه لو لم يكن مصطفى كمال (أتاتورك) عسكرياً حازماً لكانت تركيا قد خسرت لحساب «اليونانيين» معظم شواطئها المتوسطية، وبالطبع لما كانت ضمّت لواء الإسكندرون بلعبة دولية شاركت فيها من الجهة الأخرى فرنسا بتواطؤ مع بريطانيا، وكل هذا استكمالاً لاتفاقية سايكس - بيكو المعروفة التي تمت فيها تجزئة مشرق العالم العربي وبـ«المسطرة»، كما يقال، وحيث كانت حصة الفرنسيين سوريا ولبنان، بينما كانت حصة البريطانيين في الهلال الخصيب فقط العراق والأردن... وانتداباً على فلسطين تولى تنفيذ قيام دولة إسرائيلية في عام 1948.
إنَّ هذا جانب، وأمّا الجانب الآخر فهو أن الشيوعيين بقيادة فلاديمير إيليتش لينين قد أطاحوا بالنظام القيصري الروسي وأقاموا إمبراطورية سوفياتية تمكنت من التمدد في كل أوروبا الشرقية، وهذا بالإضافة إلى كوريا الشمالية وأيضاً إلى الصين وفيتنام والهيمنة على عدد من الدول العربية في مقدمتها سوريا واليمن الجنوبي والوصول إلى كوبا «الكاستروية» التي تقع على بعد مرمى حجرٍ من الولايات المتحدة.
والحقيقة، التي كانت واضحة وضوح الشمس، كما يقال، أنَّ قادة ومعهم الأمناء العامين للحزب الشيوعي السوفياتي قد تصرفوا داخلياً وخارجياً بالطريقة التي كان يتصرف بها قياصرة روسيا، بل وأكثر بطشاً واستبداداً، وهنا فإن سيبيريا تشهد على الألوف المؤلفة حتى من القادة الشيوعيين الذين خسروا أعمارهم في زنازين ومعتقلات هذه المنطقة الجليدية، الذين كان جهاز الـ«كي جي بي» الستاليني قد «شحنهم» إليها بالشبهات، وهذا بالإضافة إلى حملات الاغتيالات التي لاحقت آخرين من بينهم (الرفيق) كاسترو إلى أميركا اللاتينية، حيث تم تهشيم جمجمته بساطور يحمل اسم جوزيف ستالين.
إنّ كل الإمبراطوريات التي جاء بها التاريخ إنْ كمأساة وإنْ كمهزلة معا في القرن العشرين قد فعلت من البشائع والشنائع أكثر كثيراً مما فعله الـ«كي جي بي» وستالين، وأيضاً أكثر كثيراً مما فعله مصطفى كمال (أتاتورك) في السلطنة العثمانية، كما روى لنا الأجداد وكما جاء في شهادات كتب التاريخ المنصفة، قد اتبعت مع العرب ومع الأتراك قمعاً بدائياً شمل أيضاً كل «شعوبها» الأخرى في قارتي آسيا وأفريقيا وأيضاً في أوروبا، حيث وصلت طلائع فرسانهم إلى العاصمة النمساوية نفسها كاحتلال بقي سنوات طويلة في كل دول أوروبا الشرقية.
إنه لا بد من هذه المقدمة الطويلة لأنها ضرورية، ولأن كل هذه الويلات التي تشهدها منطقتنا العربية تتّكئ على هذا الماضي المرعب الذي خلَّف لنا كل هذا التمزق، وحرمنا من أن تكون لنا دولتنا الموحدة مثلنا مثل باقي الأمم، وحرم أشقاءنا الأكراد من أنْ تكون لهم دولتهم القومية التي يستحقونها، فهم شعب عظيم ومبدع وقد حرمته «مسطرة» سايكس وبيكو من أن يقرر مصيره بنفسه، مع العلم أن كل التقديرات تشير إلى أن عدد أبنائه في تركيا وفي إيران وأيضاً في العراق وسوريا ولبنان يتجاوز عدد سكان ثلثي دول أوروبا الشرقية!!
الآن وبعد نحو مائة عام من انهيار السلطنة العثمانية وانهيار روسيا القيصرية وانهيار باقي ما تبقى من الدولة الصفوية التي هي أبشع وأسوأ الدول التي عرفها التاريخ، القديم والجديد، فإن كل هذا الذي نراه لا يشير وفقط بل يؤكد أن الماضي الذي ظننّا أنه رحل مع رحيل القرن الفائت ها هو ينهض مجدداً، وأن كل هذه المذابح التي تُرتكب في منطقتنا والدماء التي تسيل فيها سببها عملية النهوض هذه؛ وهكذا فإن صراع اللحظات الأخيرة يجري الآن على أرضنا، وبالتالي فإننا نحن من يدفع ثمن البدايات، وبالتأكيد فإننا إن لم نُغيّر ما بنا حتى يغيّر الله أحوالنا فإننا سندفع ثمن النهايات أيضاً. فالدول وخاصة الدول الكبرى لها أطماع ولها مصالح ولها تطلعات توسعية، وفي العادة فإن الدول الضعيفة والممزقة التي تفتقر إلى الوحدة والتنسيق والتفاهم هي التي تدفع الثمن، وها هي تجارب التاريخ ماثلة أمامنا، وبخاصة تجارب الألفية الثانية عندما كنا جزءاً من الإمبراطورية العثمانية التي هي بانهيارها من سلمنا إلى الاستعمار الغربي الذي انتزع منا فلسطين، وأقام فيها كمشروع استعماري هذه الدولة الصهيونية.
لقد استعاد فلاديمير بوتين، متجاوزاً المرحلة السوفياتية، إمبراطورية القياصرة، والواضح أن رجب طيب إردوغان قد قدم كل هذه التنازلات التي قدمها والتي يواصل تقديمها للروس وللإيرانيين من أجل استعادة ليس دولة مصطفى كمال (أتاتورك) وإنما السلطنة العثمانية، وكل هذا وقد سمع الذين ليس في آذانهم «وقْرٌ» منا ما قاله أحد كبار أصحاب القرار في طهران، إذْ أعلن وبأعلى صوته وعلى رؤوس الأشهاد أن أربع دول عربية، بالإضافة إلى أفغانستان أصبحت تابعة للولي الفقيه، وغدت جزءاً لا يتجزأ من إيران.
وبالطبع فإن الدول العربية المعنية هي العراق وسوريا واليمن ولبنان، يضاف إليها «دوقية» غزة، والواضح أن استيعاب إيران لهذه الدول وغيرها يعني استعادة ما يسمى «أمجاد فارس القديمة»، ويعني أيضاً عودة الدولة الصفوية مجدداً، ويعني أننا سندفع الثمن غالياً وعلى مدى مستقبل طويل إنْ لم نفهم هذا كله وندركه، وإنْ لمْ نعد ترتيب صفوفنا ونتخلَ عن الاستجابة لكل الذين يريدوننا أن نكون قبائل متناحرة وعلى غرار ما كانت عليه الأوضاع قبل الإسلام العظيم.
إنَّ معركة استكمال الصفويين (الفرس) لصفويتهم تجري الآن على أرضنا، وكذلك معركة إيصال روسيا القيصرية إلى شواطئ البحر المتوسط، حيث المخزون الهائل لمصادر الطاقة الجديدة، والتحكم بأهم الممرات المائية العالمية، وكل هذا في حين أن (السلطان العثماني الجديد) قد قفز من فوق خلافات السلطنة العثمانية مع هذين العدوين اللدودين؛ إذ إنه هو بدوره عينه على البحر الأحمر وباب المندب وقناة السويس، وعينه أيضاً على الذين طمعاً في أموالهم تخلى عن أصدقائه وتخلى عن قيم مقدسة، نرى يومياً وفي كل لحظة استهدافها من قبل «الولي الفقيه» ودولته الصفوية.
وعليه فإن منطقتنا العربية التي تغرق في المآسي والويلات حتى «شوشة» رأسها لن ترى الاستقرار والهدوء ولسنوات طويلة. فهذه الإمبراطوريات الناهضة التي ورثت إمبراطوريات القرن الماضي سوف تتعارض مصالحها لا محالة، إذ إن لكل واحدة منها أطماعاً لا يمكن تحقيقها إلا على حساب الدولتين الأخريين، وهذا سيؤدي بالتأكيد إلى صدام عسكري ستكون هذه المنطقة من عالمنا العربي ميدانه الرئيسي، وهكذا فإن القادم سيكون أعظم وأخطر، وبخاصة إذا دخلت الولايات المتحدة على هذه المعادلة، وهي ستدخل بالتأكيد، لأن إدارة دونالد ترمب خلافاً لإدارة باراك أوباما تعتبر أن الشرق الأوسط لا يزال مهماً بالنسبة لأميركا، وأن لها فيه مصالح حيوية إنْ في هذا القرن وإنْ في القرن الذي يليه.