سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

وصمة ويني مانديلا

لم يكن زواجاً تقليدياً، ولا قصة حب اعتيادية، تلك التي عاشتها ويني مع نيلسون مانديلا. فليس في الحياة السياسية المعاصرة ثنائي سياسي له تجربة نضال استثنائية كالتي ربطت هذين الاسمين الشهيرين. صورتهما عند إطلاق سراح مانديلا عام 1991 بعد 27 سنة من السجن، وهي تمسك بيده، ويلوحان بقبضتيهما للجماهير الغفيرة، وترصدهما كاميرات الدنيا، ستبقى لكل التواقين لنصرة الحرية، مشهداً لا ينسى. تزوج نيلسون قبل ويني كما بعدها، ومع ذلك بقيت رفيقته، حتى بعد طلاقهما، وإن بدا القلب جافياً. لم يحتمل الرجل الحملات القاسية ضده، في اللحظة التي أصبح فيها حراً يفاوض نظاماً قرر مقارعته منذ كان طالباً صغيراً وطرد من الجامعة، لأنه رفض الاعتذار للبيض. أثيرت فضائح ويني في الوقت الذي كان يتهيأ فيه ليقطف ثمراً أفنى عمره كله من أجله، ومع ذلك انتظر قرار المحكمة التي أدانتها بتهم عديدة وانحنى. لحظة قرر الفراق جاءت كلماته حارة ومؤثرة: «أنفصل عن زوجتي بلا اتهامات، وأضمها بكل الحب والحنان اللذين كننتهما لها داخل جدران السجن وخارجه؛ الحب والحنان اللذين شعرت بهما حيالها منذ اللحظة الأولى، التي رأيتها فيها».
بعض الزيجات تخرج عن المألوف، وحياة العباقرة لا تشبه غيرها. ومانديلا كان متعالياً على الضغينة، وهنا يكمن سره وسحره، ثاقب النظرة، حكيم الفكر، واسع الرؤية. وربما ذنب المرأة التي أحبها، بمجرد أن وقعت عيناه عليها أمام موقف للباصات، أنه سجن واستراح لتأملاته واجتهاداته، فيما بقيت هي خارجاً مع الذئاب، تصارع حكومة تطاردها ورجال أمن يحاصرونها ويحرقون منزلها، تواجه خيانات الأقربين، وتتحمل مسؤوليات تفوق طاقتها على إدارتها بالتروي الذي عرف عن شريكها.
سجنت هي أيضاً، ونفيت، ووضعت في الإقامة الجبرية. وكانت حين ارتبطت به تعرف بأنها ارتضت معانقة قضية شعب بأكمله، يحملها هو على كتفيه، وعليها أن تتحمل أثقالها معه. وكان ثمن كل ذلك باهظاً، لا بل أكبر مما توقعت.
حتى التاريخ ظلّام للنساء، فقد غفر الجميع لنيلسون ما حوسبت عليه ويني. نسي الناس أن أسطورة القرن العشرين الذي منح «جائزة نوبل للسلام»، وصفق له العالم اعتزازاً، ونصّبه رمزاً، لم يكن دائماً حمامة ناصعة البياض. فقبل اعتقاله بوشاية من جهاز الاستخبارات الأميركية والعثور عليه متنكراً، كان يجوب الدول الأفريقية بحثاً عن سند لتسليح ميليشيا تقاوم نظام التمييز العنصري، بعد أن بلغ عنفه ومجازره مبلغاً، لم يعد مقتنعاً بصوابية مقارعته بالاحتجاجات. صحيح أن الحركة المسلحة كانت تتفادى إزهاق الأرواح، وتضرب حيث توجع ولا تقتل، لكن مانديلا لجأ للعنف ذات فترة. وبقي بسبب ذلك على لائحة الإرهاب الأميركية حتى سنة 2008، وكأنما نوبل لم تشفع له ولم ترحم.
هذا كلام لا يدين مانديلا الذي كان يجهد لاستعادة كرامة شعبه المستعبد منذ قرون، بقدر ما يدعو للتفكر بمظلومية ويني التي ارتكبت حماقات، لأنها ببساطة لم تكن بسماحة زوجها. وهي لم تبلغ قدرته المدهشة على الغفران لأولئك المستعمرين البيض، الذين أهدروا عمره كله على مذبح النضال. قال حين بدأت محاكمته الأولى «أنا على استعداد للموت من أجل قضيتي» وهو يرى رفاقه يحكمون بالإعدام من حوله، فاكتفى جلادوه بأن طلبوا له السجن مدى الحياة، كي لا يتحول إلى رمز.
وقد نجا بالفعل من الموت، ونجت علاقته مع ويني من الانفصال، ودام الزواج 38 سنة لم يلتقيا خلالها إلا قليلاً. وكانت صادقة حين قالت: «ربما لو كان لديَّ وقت لأعرفه بشكل أفضل لوجدت الكثير من الأخطاء، ولكن كان لديَّ وقت فقط لأحبه».
ويني امرأة أخلصت لشعبها، وتعرضت لأذى وتعذيب واضطهاد لأنها آمنت بأن المساواة أولويتها، واستعادة حقوق السود المسلوبة مهمتها، وكانت في أسلوبها أكثر تشدداً من زوجها. صعب عليها أن تسامح مثله، أن تنسى على طريقته، أن تنظر إلى مسافة أبعد كثيراً من راهنها، أن تكون لها عينا زرقاء اليمامة. حين أبرم اتفاقه مع البيض لإنهاء ثلاثة قرون من العبودية، وهذا ليس بقليل، اعتبرت قبوله ببعض الشروط تنازلاً، وقالت في تصريحات لها: «مانديلا تخلى عنا. الاتفاق الذي أبرمه سيئ للسود».
لم تكن راضية أيضاً عن قانون «المصارحة والمسامحة» الفريد من نوعه بين القتلة وأهالي الضحايا، الذي ابتكره زوجها، ليطوي صفحات الدماء في بلده. ارتضت أن تتخلص ولو بالعنف والتصفية ممن اعتبرتهم خونة لقضية شعبها، بينما تعلم هو في السجن «أن عليك ألا تحارب أشخاصاً وإنما نظاماً»، لأن الناس يتغيرون وتبقى الذهنية التي تفتك. نظرتان للوصول إلى هدف واحد، كانتا منسجمتين متكاملتين في بداية الطريق، لكن الظروف التي فرقتهما جعلت كلاً منهما يرى الأحداث من زاوية مغايرة. سنوات الاعتقال والفراق، أغرت المرأة بالانزلاق صوب قصص الانتقام والحب، ويبدو أن مانديلا لم يكن عفيف النفس، بل كان محباً للنساء هو أيضاً. ومع ذلك لم يغفر لها خيانتها، وإن تفهم أن تحاط بمجموعات عنيفة، وتتواطأ على قتل صبي في الرابعة عشرة لاكتشافها عمالته لمعارضيها.
حياة مليئة بالمتناقضات، والعقبات، والعجيب أن يستمر الحب كلَّ هذه السنين الشائكة، وينفرط عقد العلاقة في اللحظة التي كان يفترض أن تكلل بورود النصر.
لعل الصحافة وبعض المتربصين، لم يسامحوا ويني، لكن فقراء السود وبؤساءهم في بلدها، الذين أدينت بالاحتيال لأنها كانت تأتيهم بالقروض لتسد حاجاتهم، لا بد سيتذكرون «أم الأمة» و«سيدة الكفاح ضد التمييز» والمرأة التي وافقت، وهي في الحادية والعشرين، على أن تتزوج رجلاً في الأربعين، وهي تعرف سلفاً أنه وهب نفسه، لا لعائلته، بل لواحدة من أعقد وأصعب قضايا القرن العشرين على الإطلاق.