إميل أمين
كاتب مصري
TT

أميركا ـ سوريا... الانسحاب لا يفيد

فيما يُشبِه الزوبعة، جاءت تصريحات الرئيس الأميركي بشأن انسحاب القوات الأميركية من سوريا.
المفاجأة أن الإعلان مضى في طريق مغاير شكلاً وموضوعاً طولاً وعرضاً ومساحةً إجماليةً لخطوط الاستراتيجية العريضة التي صاغها رجالات مجلس الأمن القومي الأميركي نحو سوريا، وما يجري على أرضها في اتصاله مع بقية شؤون وشجون الخليج العربي وبقية منطقة الشرق الأوسط.
ولعلّ علامة الاستفهام التي تشغل بال كثيرين حتى الساعة: هل يمكن أن يصدر هذا التصريح بشكل عشوائي عن الرئيس ترمب؟
واقع تحليل المشهد يقودنا إلى عدة سيناريوهات منها أن يكون التصريح قد صدر عنه بعفوية، وإن كان ذلك غير عملي، لا سيما في ضوء توقيع ترمب نفسه على الاستراتيجية الخاصة بسوريا، التي كلَّفَت جهداً عقلياً ومناورات ومناوشات فكرية واستخباراتية طويلة، ما يعني أن الحديث عنها لا يمكن أن يكون سهلاً ويسيراً على ذلك النحو.
احتمال آخر هو أن يكون التصريح قد صدر بصورة ارتجالية من ترمب، وهو المعروف بشطحاته السياسية العريضة عبر «تويتر»، ومن قبل كتب أشياء مشابهة.
فيما البعض يرى أن ترمب قد طرح فكرة الانسحاب ضمن إطار ما يُسمَّى «المزايدة السوقية»، بمعنى طرح سلعة غالية القيمة ومغازلة الراغبين في الشراء للحصول على أعلى سعر.
على أن هناك رؤيةً أخرى قالت بها بعض وسائل الإعلام الأميركية ونفر من المحللين الثقات، وربما لم نتنبه لها في عالمنا العربي بنوع خاص، وهي اتجاه إدارة ترمب لتنفيذ ضربة عسكرية قوية لا تُصد ولا تُرد لإيران، وعليه، فإنه لا يريد أن تكون هناك على الأرض قوات أميركية تُعد صيداً سهلاً يقع في شباك الإيرانيين والميليشيات التابعة لهم داخل سوريا.
الطرح الأخير قد يكون من قبيل أسرار الدولة الأميركية العليا، وبوصف الرئيس ترمب قادماً من خارج المؤسسة السياسية والاستخباراتية، لذا فإن مقدرته على صيانة أسرار الأمن القومي تبقى ضعيفة، وإنه في أوهايو كاد يميط اللثام عن الأخطر الذي لم يأتِ بعد.
لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون في الانسحاب من سوريا منفعة للولايات المتحدة، بل على العكس من ذلك؛ إذ إن كل الأبواب التي سيخرج منها الجنود الأميركيون سيدخل منها في الحال أضدادهم آيديولوجيّاً ودوغمائياً... ماذا عن ذلك؟
بقراءة أكثر عمقاً سوف يمكن التراجع الأميركي من سوريا الدولة التي تعتبر بالنسبة لترمب وبقية أركانه، لا سيما من الصقور، دولة الإرهاب الأولى مناطقياً وعالمياً، ونعني بالصقور واحداً ينتظر تعيين مجلس الشيوخ مايك بومبيو، وزيراً للخارجية، والآخر سوف يتسلَّم مهام منصبه مستشاراً للأمن القومي خلال بضعة أيام جون بولتون.
يعني الانسحاب أن تتمكن إيران من تحقيق حلمها الأكبر، أي الوصول إلى مياه البحر الأبيض المتوسط، عبر طريق سريع يبدأ من طهران، ويمر ببغداد إلى دمشق وصولاً إلى بيروت. إنه الدرب الذي يجعل من أحلام إيران ما يشبه الواقع الأليم، مع ما لذلك من تبعات واستحقاقات كارثية على الاستراتيجية الأميركية الأوسع لقيادة العالم وجعل القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً بامتياز.
لم يلتفت ترمب إلى نصائح ثعلب السياسة الأميركي المعاصر هنري كيسنجر لسلفه باراك أوباما حين حذره من أن كل مربع قوة تفقده أميركا على الأرض تقوم روسيا - بوتين بملئه بخطوات واثقة، خطوات تختصم من نفوذ أميركا ومن ثقة حلفائها بها، الأمر الذي يمثل لها خسائر غير محدودة في الحال والاستقبال.
ولعل الكارثة الأشد هولاً من جراء مثل ذلك الانسحاب الذي تحدث عنه ترمب هو أنه يفتح الباب واسعاً، ومن جديد، لعودة «داعش»، وربما تنظيمات ما بعد «داعش»، وهي خليط من آيديولوجيا «القاعدة» وتوحش الدواعش، بمعنى أن تضحى سوريا ومن جديد منصة للتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، ما يمكن ترجمته بأنه تهديد مباشر لأمن المواطنين الأميركيين سواء داخل الحدود الأميركية أو خارجها، وهو الأمر الذي لا يريده ترمب حكماً في الصحو أو المنام.
كثيراً جداً ما انتقد الرئيس ترمب سلفه أوباما ووجه كثيراً من الخطابات المعادية لسياساته الخارجية، وبلغ به الأمر أنه اتهمه ووزيرة خارجيته في ذلك الوقت هيلاري كلينتون بأنهما السبب في نشوء وارتقاء «داعش»، بسبب القرار المتهور الخاص بانسحاب القوات الأميركية من العراق عام 2011؛ فهل يملك ساكن البيت الأبيض اليوم أن يكرر الخطأ القاتل؟ أم أن ترمب يود أن يعزز نظريات المؤامرة عند البعض شرقاً وغرباً، وجلّها يربط بين «القاعدة» و«داعش» من جهة، وإرادة أميركية خفية في تحضير الجني لأهداف تتسق والخطوط والخيوط الأميركية العريضة حول العالم عامة وشرق أوسطياً خاصة.
أسوأ ما يمكن أن يصيب السياسة الأميركية الخارجية في تقديرها وتقييمها للقضايا الدولية أن تتحكم في رئيس البلاد عقلية أميركا (الكوربوراتية)، أي أميركا الشركات والرأسمالية التي تتعاطى بحسابات الأرقام الجافة الصماء، كالقول إن واشنطن أنفقت 7 تريليونات دولار في الشرق الأوسط، ولم تتحصل على أي مقابل، ولهذا يتطلع ترمب إلى إلغاء 200 مليون دولار مخصصة لإعادة إعمار سوريا.
الخلاصة: الانسحاب لا يفيد... المواجهة الإيجابية هي الحل.