طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

بعد عمر طويل

أكثر من فنان شاهدته مؤخراً يتم تكريمه، والجميع اتفقوا على تكرار كلمة واحدة «الحمد لله أشاهد تكريمي وأنا على قيد الحياة» تعودنا في عالمنا العربي أن نتذكر كبار مبدعينا وهم يغادرون الحياة، أو على أحسن تقدير، وهم في طريقهم للعبور إلى «الشاطئ الآخر».
تابعت مؤخراً الكبار مثل سميحة أيوب، ورشوان توفيق، وحسن حسني، وهم يكرمون في أكثر من مهرجان، ورأيت أيضاً محمد صبحي وهو لا يزال بالطبع في ذروة إبداعه، عندما أطلق منظمو، مهرجان شرم الشيخ المسرحي، اسمه على تلك الدورة، إلا أنه قال في كلمته: «أوصيت أبنائي ألّا يتسلموا أي جائزة تحمل اسمي بعد رحيلي».
ما قاله صبحي به قدر من المرارة التي يعيشها الفنان وهو على قيد الحياة، عندما يشعر بالظلم والتجاهل، إلا أن هذا لا يعني أن التكريم بعد الرحيل، يتم رفضه، هناك تكريم مستحق للفنان بعد أن يصل إلى محطة المغادرة.
لديكم مثلاً فاتن حمامة، صار لها بعد الرحيل أكثر من جائزة تحمل اسمها، يمنحها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، طبعًا يا ليتنا تنبهنا لذلك وهي بيننا، هل هو بسبب الخوف من غضب من هم في نفس الجيل، قد يقولون: «إشمعنى فاتن»؟
هل هناك حرج ما، يحول دون أن نمنح المبدع حقه وهو لا يزال على الساحة؟ الأديب الكبير الطبيب أحمد خالد توفيق، الذي رحل عن عالمنا قبل نحو أسبوع، كل الجرائد العربية أفردت له مساحات من الثناء، لم يكن الراحل ينال في حياته جزءاً يسيراً منها رغم غزارة إبداعه، فهل أخطأنا عندما صححنا الموقف؟ لقد ازدادت في الأيام الأخيرة أرقام مبيعات كل كتبه التي سوف تعيش بعده، لأنها تحمل مقومات الحياة.
سوف أضرب لكم مثلاً بخالد الذكر كما أطلقوا عليه بعد رحيله، الشيخ الموسيقار سيد درويش، حياته القصيرة لم تتجاوز 32 عاماً، لم يقيّم إبداعه بما يستحق وهو حي يرزق، وكلما أوغلنا في سنوات الغياب، زاد الإحساس بأهمية عطائه، والآن بعد مرور نحو 95 عاماً على وداعه، لا يزال سيد درويش يعاد اكتشاف الكثير من ومضاته الموسيقية.
إليكم مثلاً المخرج السينمائي شادي عبد السلام بعد أن قدم فيلمه الروائي «المومياء» قبل نحو 48 عاماً، انتظر أن يحقق الثاني «إخناتون» دون جدوى ورحل دون إنجازه.
«المومياء» عند عرضه في مطلع السبعينات لقي هزيمة قاسية في شباك التذاكر، بل اتهم البعض المخرج وقتها بتبديد مال الدولة، وهناك من وصمه بالعنصرية، بدعوى أنه يحيي النزعة الفرعونية، ضد القومية العربية.
مر زمن وبدأ الجميع يعيدون الاعتبار لشادي ولـ«المومياء»، وطبقاً لآخر استفتاء أجراه مهرجان دبي قبل 6 سنوات اعتبروه هو الأفضل عربياً.
المخرج مارتن سكورسيزي ألقى محاضرة في مهرجان كان قبل 10 سنوات عن «المومياء»، مؤكداً أنه استطاع أن يخلق أبجدية سينمائية وهوية للفيلم المصري.
هناك من جمع بين الحسنيين، أقصد التكريم في الحياة، وبعد الرحيل، مثل الشاعرين نزار قباني، ومحمود درويش، وأيضاً المخرج يوسف شاهين وغيرهم، حصلوا على أرفع الأوسمة وعانقوا الشهرة والنجاح، وبعد الرحيل صار لدينا الكثير من الجوائز تحمل أسماءهم.
نعم التكريم في الحياة حق للفنان، وقد يشكل قوة دفع لمزيد من العطاء، التكريم بعد عمر طويل هو اعتذار علني من الأحياء عن التقصير الذي ارتكبوه، إلا أنه لا يبرئ ساحتهم عن هذا التقصير!