مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

«على الله تعود»

في بيروت، امرأة تمدّ يدها وهي تضم طفلها طالبة من الناس قليلاً من المال بدعاء يقطع القلب. وفي بيروت، يصدح صوت وديع الصافي من سيارة تمر ببطء في شارع الحمرا المزدحم بأغنية «على الله تعود»، وفِي بيروت، امرأة بلهجتها الشامية تتمنى العودة لبلدها، وصوتها الأنثوي لو ردد مع وديع لكان صوتاً لامرأة تبدو مدربة على الغناء، وللحظة سمعت «على الله تعود»، وللحظة أيضاً فكرت هل هي «على الله» تعود سوريا، أم «على الله» يعود لبنان؟ أم «على الله» يعود شارع الحمرا ذاته الذي كان نافورة للثقافة العالية من شعر ورواية وقصة، من محمد الماغوط وأدونيس ومحمود درويش وبلند الحيدري وغادة السمان وغسان كنفاني، أو الشارع الذي غنّت له الشحرورة ثم أضحى كياناً للتجارة والتسول؟ على الله تعود.
وزوجتي ذات المرتب الشهري المتواضع تكاد تُخرج كلّ ما لديها لتعطيه لكل من استوقفنا في الشارع وهم كثر، وأمامنا لوحة تملأ الشارع لصورة مرشح مبتسم عرفته في واشنطن أخذ كل عقود البنتاغون في العراق، وهي بالمليارات، يبتسم في صورته للمتسولين ولا يدفع. وابنتي ذات الخمسة أعوام تسأل وتلح على أمها: من هؤلاء النساء والأطفال وماذا يطلبون؟ وليست لدينا إجابة عن أسئلتها البريئة المخجلة.
إنها صورة لكارثة التناقض في العالم العربي، مجسدة في شارع الحمرا ببيروت، عالم يبدو إنسانياً على السطح، ولكن البشر فيه مهانون ومستباحون.
لبنان كما وجه الإنسان تنعكس عليه أمراض الجسد الباطنية، ما تراه في بيروت هو غالباً عرض لمرض، فأمراض العالم العربي تظهر بثوراً على وجه لبنان، ومتى ما تغيرت ملامح لبنان فاعلم أن العالم العربي مريض، وما أراه في شوارع بيروت يقول إن العالم العربي ليس معتلاً فقط، بل مصاباً بمرض عضال.
ومع ذلك وفي الطريق من بيروت إلى خلده كانت في الطريق لوحات تقول: «المنطقة من حولنا تحترق ولبنان في أمان»، وكأن لبنان بمعزل عن حرائق المنطقة، وليس تعبيراً عنها، إنه الوهم الفضائي، فيبدو أن الذهنية اللبنانية الحديثة ضحية للحياة في العالم الافتراضي.
لبنان الفضائي شيء ولبنان الأرضي شيء آخر. في غرفة الفندق قلّبت في القنوات الفضائية اللبنانية بحثاً عن فهم لما يجري محلياً، فلم يكن هناك الشيء الكثير، كان لبنان الفضائي شبه موناكو أو لاس فيغاس طرب ومرح وأحاديث في السياسة توحي بأن لبنان دولة عظمى على غرار الصين وأميركا، تناقش فيه القضايا الدولية الكبرى مثل التحديات الجيوسياسية والأخطار الكبرى التي تهدد الأمن والسلم الدوليين. لبنان على الأرض شيء وفي الفضاء شيء آخر، وتجسير الهوة بين الاثنين أمر يحتاج إلى سنين، ومع ذلك يبقى في أذني صوت وديع الصافي «على الله تعود».
«شي مثل الكذب» كما يقول اللبنانيون عن الأمور المبهرة، أي شيء خيالي، غير عادي، جميل جداً، مثل الكذب. ولبنان أيضاً جميل، مع ذلك اختيار عبارة «مثل الكذب» للحديث عن الإبهار والجمال هو أقرب إلى الكذب. وكما في مسرحية الرحابنة «بياع الخواتم» الكذبة كبرت وصارت الكذبة «زلمة»، أي تجسدت حقيقة كما رجل يمشي على الأرض. وكثير مما يحدث في لبنان وحوله كذبة كبيرة، ومع ذلك في عالم البؤس لا مخرج سوى الخيال والابتكار في صناعة الكذب.
رأيت لبنان بلداً بسيطاً مثل قفص مصنوع من سعف النخيل، مشدوداً إلى بعضه بحبال من الطائفية والعشائرية ملونة بألوان للحداثة والعصرنة.
ورغم هذه الرقة، إلا أن البشر فيه من طراز فريد قادرون على التعامل مع كل الضغوط الإقليمية. شيء مثل الكذب.
طبيعة لبنان، البحر والجبل، فعلاً شيء مثل الكذب، ولكنه يحتاج إلى دخل دولة مثل النرويج لكي يصبح شيئاً جميلاً، فالتنمية بسيطة في كل هذه الطبيعة الجميلة، وخيال الساسة يجعل من تلك الطبيعة الجميلة معلماً من معالم خيال القبح. وبتنويع على بيت شعر لعمرو بن الأهتم نقول بشيء من التضمين: ... ما ضاقت بلاد بأهلها... ولكنْ خيال الناس فيها يضيق.
إنه الخيال الضيق والخيال القبيح الذي حول بلداً مثل لبنان إلى كارثة إنسانية، ومع ذلك «على الله تعود».