عندما تناهى إلى أسماع العالم أن الرياض ستحتضن أول أسبوع موضة في تاريخها، قامت أوساط الموضة ولم تقعد لحد الآن. أولاً تحسباً لنتائجه وثانيا فضولا لتفاصيله وأحداثه. بعد تعثر خفيف أدى إلى تأجيله، انطلق منذ يومين بحفل كبير تخللته مناقشات عن أهمية الموضة في العالم عموما وما تعنيه للسعودية خصوصا. بالنسبة للأميرة نورا بنت فيصل آل سعود، الرئيس الفخري لمجلس الموضة العربية (AFC)) فإن الحدث جزء من حركة تاريخية ستذهب إلى حد بعيد في تطوير صناعة الأزياء في المملكة العربية السعودية. من جهتها أشارت كارولين راش، الرئيس التنفيذي لمجلس الأزياء البريطاني إلى أهمية «خلق بيئة يمكن أن يزدهر فيها رواد الأعمال الشباب» وأضافت بتفاؤل: «سنرى في المستقبل القريب نظاماً إيكولوجياً مختلفاً في الرياض».
كان من الواضح خلال حلقة النقاش أن أسبوع الموضة العربية في الرياض ليس عن الموضة كأزياء وألوان. قد تكون دورته الأولى عملية يراد من ورائها جس نبض العالم، لكن النتائج كانت سريعة وكبيرة إذا أخذنا بعين الاعتبار ردود الأفعال العالمية والحركة التي يشهدها بهو فندق الريتز كارلتون، حيث حطت العديد من وسائل الإعلام وحيث نصبت خيمة كبيرة تحتضن أكثر من 13 عرضا. فمع إطلاق أول أسبوع موضة في العاصمة الرياض تكسب الموضة شهادة جديدة بأنها صناعة مهمة لا يستهان بها، ليس لأنها تُلمع صورة أي بلد تُقام فيه وتُعرف بثقافته وحضارته فحسب بل أيضا لأنها قد تُدر ملايين، إن لم نقل مليارات، الدولارات على الاقتصاد المحلي في حال تم التعامل معها بشكل جيد. وهذا ما تجسده رؤية السعودية لـ2030 المتمثلة في استغلال قوة المملكة الاستثمارية لتنويع الاقتصاد وتحقيق استدامته وأيضا التفاعل مع العالم بشكل إيجابي. ثم إن الموضة كما نوهت الأميرة نورا في كلمتها الافتتاحية «لغة عالمية يتقنها الجميع».
وهذا يعني أنها واحدة من الوسائل التي يمكن استعمالها للانفتاح على العالم. فهي صناعة محركة للمال والجمال على حد سواء، حسبما تعرفه العواصم العالمية المتمرسة في هذا المجال بمن فيهم الاتحاد الأوروبي الذي انتبه منذ بضعة أعوام إلى أن أوروبا تضم أكثر من 850.000 شركة متخصصة في الموضة وتوفر أكثر من 5 ملايين وظيفة، وبالنتيجة تشكل 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي ونسبة عالية من صادراته، الأمر الذي دفعه لإنماء هذا القطاع وإنعاشه أكثر بحلول عام 2020.
السياسة نفسها تنتهجها عواصم عديدة أطلقت أسابيع خاصة بها، بغض النظر عن مدى قوتها وتأثيرها، المهم بالنسبة لها أن تفرض نفسها على الخريطة فيما أصبح الآن يعرف بـ«البراندينغ» بمعنى تلميع الصورة. فبينما كان أمل الدول النامية في القرن العشرين أن تحذو حذو البلدان المتقدمة ببناء المصانع وتطوير صناعاتها، فإن أملها الآن منصب على تجميل صورتها لجذب المستثمرين وصناع الترف. ما شجع الحكومات على دعم هذه الأسابيع أن ثمارها غنية ولا تكلفهم ما يُكلفه بناء محطة توليد كهرباء أو تنظيم الأولمبياد أو كأس العالم مثلا. وهذا ما أكدته كارولاين راش، الرئيس التنفيذي لمنظمة الموضة البريطانية بتصريحها في عدة مناسبات بأن صناعة الموضة في لندن تساعد على جذب المستثمرين، وفي جعل العاصمة البريطانية مركز جذب تجاري يتجسد في افتتاح مصممين عالميين محلات رئيسية لهم فيها.
الساسة البريطانيون أكثر من فهموا اللعبة وخاضوها بحنكة. تارة بفتح أبواب المقر الوزاري، «10 داونينغ ستريت» لوسائل الإعلام خلال الأسبوع، وتارة بحضورهم بعض العروض. بل وشجعوا أفرادا من العائلة المالكة مثل الأمير تشارلز على افتتاح بعضها، ومؤخرا الملكة إليزابيث الثانية، التي حضرت الأسبوع في بادرة غير مسبوقة منذ أن اعتلت العرش البريطاني. العملية بالنسبة لبريطانيا ليست تلميعا بقدر ما هي تجارية بحتة. فالأسبوع يدر على الاقتصاد المحلي أكثر من 26 مليار جنيه إسترليني ويوظف آلاف الناس. وحسب التقارير التي تنشرها منظمة الموضة البريطانية، فهو أهم من قطاع صناعة السيارات. ولا يختلف الأمر في إيطاليا حيت تحقق دار غوتشي وحدها أرباحا تقدر بـ3 مليارات يورو في السنة، كذلك دار برادا و«دولتشي أند غابانا» وغيرها من البيوت الإيطالية الكبيرة. أسبوع نيويورك بدوره يحقق لنيويورك وحدها ما يقرب من 540 مليون دولار أميركي، نحو 40 مليون دولار منها تذهب لصالح المطاعم، و30 مليون دولار لسائقي التاكسيات وإيجار السيارات الخاصة وباقي وسائل النقل، و56 مليون دولار للفنادق.
حتى أسبوع طوكيو الذي انطلق حديثا يدر على اقتصاد البلاد نحو 93 مليون يورو ويجذب نحو 50.000 زائر في الفترة التي يقام فيها، بينما يحقق أسبوع شانغهاي 90.5 مليون يورو. ويأتي الإقبال ومن ثم تنامي كل من أسابيع طوكيو وشانغهاي والهند كونها تتوفر على مصانع إنتاج ضخمة يعتمد عليها الغرب.
أما في أوروبا فإن مدريد تأتي في المرتبة الثالثة من حيث حصدها الأرباح بعد نيويورك ولندن. فأسبوعها يجذب 55.033 زائر، في كل موسم ويولد دخلا إجماليا قدره 104.5 مليون يورو، وهو رقم لا يمكن الاستهانة به إذا أخذنا بعين الاعتبار أن إسبانيا تعاني من ركود اقتصادي كبير منذ سنوات. في عام 2017 شهدت عروضا لنحو 43 مصمما إسبانيا وعالميا، ورغم أنه أقل من عدد المشاركين في ميلانو أو باريس، إلا أنه يتفوق عليهما من ناحية تحقيقه ربحا أكبر. السبب أن من يحضرونه ليسوا من النوع الذي يريد نفش ريشه واستعراض نفسه أمام الكاميرات فقط، بل من النوع الذي يريد أن يُبرم الصفقات.
ورغم أن نيويورك ولندن وميلانو وباريس لا تزال العواصم التي تتصدر خريطة الموضة، فإن نجاحها شجع عواصم أخرى على اقتحام هذا الميدان. فالملاحظ أنه ما إن تنتهي دورة الموضة العالمية في العاصمة الباريسية حتى تُطلق موسكو أو طوكيو أو شانغهاي أسابيع خاصة بها. بل يمكن القول إنه بات لكل عاصمة أسبوعها تقريبا، مثل برلين ولاغوس وكازاخستان ولاهور وإسلام آباد وكوبنهاغن وزنجيبار وجنوب أفريقيا وغيرها. كلها أمل في جني بعض المداخيل والانتعاش السياحي. فالمسألة تتعدى عروضا يستعرض فيها المصممون إبداعاتهم من الأزياء والإكسسوارات، إلى تحريك الفنادق والمطاعم ووسائل المواصلات وما شابه من خدمات يحتاجها الضيوف الوافدون إليها. وقد يقول البعض إن إطلاق أسبوع الموضة بالرياض لا يخضع لهذه المعايير والتطلعات، لأنه من جهة يمثل سوقا مهمة، وثانيا لأن عيون العالم كله عليه «تسويقيا» على الأقل، لكنه بالنسبة لسمو الأميرة نورة بنت فيصل آل سعود الرئيس الفخري للمجلس فإنه ضرورة تأخرت بعض الشيء لكنها تتماشى حاليا مع رؤية 2030 «فالسعودية تتمتع بثروات تتعدى البترول... لدينا مآثر ومعالم تاريخية، كما لدينا شباب له طاقات عالية للإبداع والعطاء، وهذا ما نريد أن يعرفه العالم عندما يأتي إلى الرياض». فالأسبوع فرصة للتعرف على الثروات الفنية والمعمارية والتاريخية، مثل الدرعية، عاصمة الدولة السعودية الأولى، وغيرها من المعالم الثقافية والحضارية للبلاد التي لا يعرف عنها الغرب الشيء الكثير.
وتكتسب الرياض أهمية أخرى تستمدها من كون 70 في المائة من سكان المملكة من الشباب. وإذا كانت بعض الدول النامية، مثل تركيا وجورجيا وغيرهما، تستعمل أسابيع الموضة للترويج لنفسها كمراكز لصناعة الأقمشة أو الدباغة وغيرها من الصناعات المحلية التي تطمح لإنتاجها أو تصديرها، فإنها بالنسبة للسعودية شيء مختلف. فهي تدخل المنافسة كوسيلة للانفتاح على الغير من خلال خلق مساحة من الحرية للإبداع، متسلحة بقوتها الشرائية التي تثير لعاب صناع الموضة والترف ومراهنة في الوقت نفسه على تعطش مصمميها لإبراز قدراتهم وللتحليق للعالمية. أمل ما يُحسب لها في كل هذا، نيتها في إنماء هذا القطاع بخلق بنيات تحتية مثل معاهد لتدريسها والبحث عن مصادر إنتاج تستثمر فيها حسب تعليق جاكوب أبريان، المؤسس والرئيس التنفيذي لمجلس الأزياء العربي، بأن الهدف من الأسبوع يتمثل في «تحقيق نتائج طويلة المدى بتطوير بنية تحتية ملائمة في كل العالم العربي، من خلال البحث عن موارد محلية وعالمية وبناء مشاغل والاستثمار في حرفيين وورشات دباغة، وما شابه من أمور تصب في إطار الموضة خصوصا والاقتصاد عموما».
ولا يخفي أحد أنه رغم إمكانيات المملكة الشرائية ومكانتها العالمية فإن المنافسة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هناك ما لا يقل عن 52 أسبوع موضة في العالم تقريبا. بعض الدول لا تكتفي بأسبوع واحد بل تُحفز المنافسة بين مدنها حتى تضمن حصة من الكعكة العالمية، مثل مدريد وبرشلونة في إسبانيا، وساو باولو وريو دي جانيرو في البرازيل، وميلبورن وسيدني في أستراليا، شانغهاي وبكين في الصين، ونيويورك ولوس أنجليس في الولايات المتحدة. غني عن القول إن بعضها لا يزال يتعثر وبعضها الآخر يحبو أولى خطواته ولم يصل بعد إلى مرحلة النضج، لكن الحكومات تُسنده بكل قواها.
لكن البداية تشير إلى أن أسبوع الرياض بدأ أقوى من غيره باختصاره الكثير من المراحل. فعُملته الرابحة تكمن في كونه سوقا يعرفه الغرب جيدا ويقدر فيه أنه يعشق الترف ويتنفسه إلى حد ما. لهذا ليس غريبا أن يثير إعلان العاصمة الرياض عن أول أسبوع موضة لها اهتماما عالميا وصل إلى حد أن المنظمين اضطروا لتأجيله حتى يستطيعوا استقبال ضيوف لم يريدوا تفويت هذه المناسبة التاريخية على أنفسهم: السيدة ليلى عيسى أبو زيد، المديرة العامة لمجلس الأزياء العربي في المملكة العربية السعودية أكدت هذا الأمر بقولها: «منذ الإعلان المبدئي في شهر فبراير (شباط)، حظي الأسبوع باهتمام كبير من الضيوف الدوليين الراغبين في الحضور. ونظراً لأهمية هذه المحطّة التاريخية للمملكة، فإن مجلس الأزياء العربي، بالتعاون مع هيئة الترفيه العامة والمصممين المشاركين، اتخذوا بشكل جماعي خطوات لتأجيل الحدث حتى نتمكّن من استقبال جميع الضيوف القادمين من كل أنحاء العالم، الأمر الذي يتطلّب منا بعض الوقت الإضافي».
واحد من أسباب هذه اللهفة لحضوره، أن السوق السعودية تداعب خيال الغرب منذ زمن بعيد. فعدا أنها إحدى أهم الأسواق التي يُعول عليها لتحريك صناعتها، فإنها كان لحد الآن مُغلقة لا يعرف عنها الشيء الكثير سوى تلك الصورة التي ترسخت في الذهن أنه زبون جيد من الدرجة الأولى. حاولوا مغازلته بشتى الطرق بما في ذلك الاستعانة بأبنائه من خلال تعاونات مع فنانين محليين ومدونين لسبر أغواره والتقرب إلى ثقافته.
من جهتها، تريد الرياض أن تقول للعالم إن الموضة لن تكون مجرد مادة استهلاكية بالنسبة لها، وإن أبناءها لا يفتقدون إلى الموهبة والقدرة على الابتكار، وكل ما يحتاجون إليه هو الإلمام بالجانب التجاري. وهذا ما يمكن تجاوزه بتوفير معاهد أكاديمية تُسلحهم بثقافة متينة تُسندهم، كما هو الحال في نيويورك أو ميلانو أو لندن. وهذا ما أشارت إليه الأميرة نورة عند الإعلان عن الخبر في لندن في شهر فبراير الماضي بقولها: «إن الوقت بات مناسبا لكي تُظهر السعودية وجوهها الفنية والإبداعية والثقافية للعالم»، و«الأهم من هذا حان الوقت لكي نقول إننا لسنا مجرد مستهلكين، بل نتمتع بقدرات هائلة للعطاء على كل المستويات».
الرياض تدخل صناعة الجمال والمال
أول أسبوع موضة يفتح الأبواب أمام المصممين المحليين نحو العالمية
الرياض تدخل صناعة الجمال والمال
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة