فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

هدم هياكل سدنة الوهم

شخص الأمير محمد بن سلمان مكامن الخلل الفكري والمحفزات التي تذهب بالإنسان إلى طرق الإرهاب ومسالكه، ففي حوارٍ مع مجلة «التايم» تحدث عن جرائم الإخوان المسلمين وأدوارهم في صناعة الشر، وأضاف إليهم تياراً خطيراً في السعودية له أتباعه وأنصاره وهو التيار «السروري» الذي هو محتوى الصحوة وعصبها، تلك الحقبة التي تعمل الدولة على كنس ذكراها وجعلها من الماضي الأسود السيئ. وصف الأمير محمد السروريين بأنهم في منزلة أعلى من خطر الإخوان المسلمين، وأنهم «مجرمون وفق قوانيننا»، واعداً بمحاكماتٍ ضدهم متى ما توفرت الأدلة، وهذه خطوة مهمة كبرى.
تاريخ السرورية كتب عنه الأستاذ عبد الله بن بجاد العتيبي مبكراً في دراسة مهمة، ولعل الكثيرين ممن كتبوا عن تاريخ السرورية والصحوة قد أفادوا منها، واستمر في التأريخ للعلاقة بين الإخوان المسلمين وأدوارهم في السعودية بمواد مهمة وثمينة، نشر منها ست حلقات في هذه الجريدة، فالسرورية كما يشرح ابن بجاد في مقالة له قبل أيام: «ظلّت العلاقات بين السرورية و(الإخوان) بالسعودية في تذبذبٍ بين العمل المشترك وبين التنافس الحزبي، يجتمعون مثلاً في (البيانات الجماعية) لتمرير مواقف سياسية معارضة ويختلفون في (المكتسبات الحزبية)، كما جرى في الانتخابات البلدية عام 2005، وبحكم التشابه الكبير بينهما حدثت بينهما صراعاتٌ في العملية التربوية والعمل الخيري، كما في الوسائل الإعلامية لكلٍ منهما، وفي الاستحواذ على المساجد وحلقات تحفيظ القرآن وغيرها. السرورية و(الإخوان) جماعتان متطرفتان تكفيريتان خطرتان، تتماهيان مع جماعات التكفير والإرهاب كـ(القاعدة) و(داعش) وتيارات السلفية الجهادية في الغاية والهدف».
بالطبع لقد أخذ تاريخ السرورية والصحوة حيّزاً من اهتمامات الكتّاب والباحثين، ومساحاتٍ من الدوريات والمطبوعات، وذلك بعد أن رفع الغطاء السياسي عن الصحوة كلها وعن تاريخها ورموزها، حينها تشجّع الكثيرون لكتابة ما في خواطرهم، مع أن الشجاعة والسبق لأولئك الذين تحملوا طوال العقود الماضية سياط الصحوة وكانوا يحاربونها وهي في عزها، ونالهم التهديد والتشويه والتكفير، إنهم أكثر قوة وشجاعة حين واجهوا ذلك التيار وهو يمسك بكثير من المؤسسات والمفاصل في الدولة، غير أن المؤلفات والكتابات الحاليّة وإنْ جاءت متأخرة فإنها تضيف وتزيد من قوة التيار المناوئ للصحوة والجماعات الرجعية، ومن ضمن ذلك ما طرحه نائب وزير الشؤون الإسلامية الدكتور توفيق السديري في كتابه «تشخيص الصحوة.. تحليل وذكريات».
والكتاب مهم بالنسبة لمنصب كاتبه، من نائب وزير لوزارة ضخمة متشعبة تشرف على تسعين ألف مسجد وجامع، وتستطيع التأثير على كل فردٍ.
لم يدّعِ المؤلف أن الكتاب عبارة عن تاريخٍ مفصّلٍ للصحوة، وإنما قراءة شخصية بنيت على تجربة امتدّت منذ الستينات الميلادية، ولهذا فعنوان الكتاب الفرعي «تحليل وذكريات»، وقد بدأ الكتاب بفصلٍ أولٍ عنونه بـ«التفسير السياسي للإسلام» أصله محاضرة ألقاها بالجنادرية عام 2016 لم يكن مدخلاً مشوّقاً ولا معبراً عن مكنون الكتاب، غير أنه وفي الفصل الثاني يبدأ بكتابة المشاهدات والتحليلات والذكريات، ومن الواضح أن الكتاب أصله محفوظ منذ زمن غير أنه اختار توقيت طباعته في هذه الفترة. ثم عرج على حزب التحرير، وجماعة التبليغ وتحولاتها، وتيار الجامية، وتنظيم القبيسيات، وتنظيم القاعدة ومآلاته، ولكنه مع كل حديثٍ حول السرورية والصحوة وتاريخ تنظيم الإخوان المسلمين والجماعة السلفية المحتسبة (جماعة جهيمان) تبدو مشاهداته أوضح، ونظرته أحد، وقلمه أقدر على التعبير، وتحضر الذاكرة مشحونة بالمواقف والسجالات والذكريات.
المؤلف عنون الفصل الثاني بـ«جماعات التفسير السياسي للإسلام في المملكة العربية السعودية»، وهنا أختلف معه، فلا معنى من الهروب من تسمية هذه الجماعات بالأصولية أو الراديكالية أو على الأقل «جماعات الإسلام السياسي»، فكلمة «التفسير» ملغزة وغير دالّة.
أشار المؤلف للمواقف الأولى لجماعة الإخوان المسلمين تجاه السعودية، وهي مواقف ساخنة بعداوتها، وآية ذلك أن موقف الملك عبد العزيز الشهير مع حسن البنا حين قال جملته الشهيرة: «كلنا إخوان وكلنا مسلمون» ضارعه مجموعة من المواقف لحسن البنا وبخاصة رواية فهمي أبو غدير عن امتعاض البنا من شرط السعودية عليه إن أراد الحج، ويتمثل بعدم الخطابة والكلام في السياسة، ومعلوم أن تنظيم الإخوان كان قد مد أذرعته في المناطق السعودية رغم وعي الملك عبد العزيز العميق لطموح حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين، لقد أراد التدريس في السعودية ولكنه لم يفلح بسبب وعي السعودية بخطره، حينها يروي محمود عبد الحليم عن البنا قوله: «إن البلاد الإسلامية بما فيها السعودية، عبء على الإخوان المسلمين، مما يتطلب مضاعفة الجهود لبعث الحياة فيها»! (من كتاب «تشخيص الصحوة» ص:43).
بعد صدور الكتاب أجرى موقع قناة «العربية» حواراً مع د. توفيق السديري، وقد أحضرت المذيعة والصحافية هدى الصالح ما يطرحه الناس على المؤلف، منها ما أعترض أنا عليه، وهو الانتقائية في ترميز أسماء مختصرة بحرفين، انتقائية لم يوضح المؤلف منهجه فيها، فقد تطرق لأسماء العشرات من رموز الإخوان المسلمين، وكذلك الجامية، والجماعة المحتسبة، ولكنه على الضفة الأخرى يرمز لأسماء، البعض يعزوه إلى جماهيرية بعض أولئك الرموز فلم يسمهم، بينما يفصح عن أدوار آخرين انقرضوا مثل مناع القطان ومحمد سرور زين العابدين.
المؤلف يقول، وأظن من النادر أن نستمع إلى مثل هذا التوصيف الصريح من مسؤول بمرتبة وزير: «إن تنظيم الإخوان المسلمين عمل بشكلٍ قوي على الأراضي السعودية منذ نشأته حتى يومنا هذا، واستطاع اختراق مجالاتٍ مهمة في الدولة، ومن أهمها قطاع التعليم العام والجامعي، والقطاع الديني، والقطاع الإداري، بل والقطاع العسكري، وإن بشكلٍ جزئي، وكذلك القطاع الخاص والتجاري باعتبار منطقة الخليج أهم مصدر تمويلي للجماعة».
لم تُهزم الصحوة ولا السرورية بعد، أمامنا وقت طويل، وصراعات ممتدة، ومعارك ضارية، لكننا سنعبر الجسر، والطريق وعرة، والأرض سبخة، ولكن لدينا القوة والقدرة، معولنا في هدم هياكل سدنة الوهم القرار السياسي الذي أراد للظاهرة أن تزول.