«الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا»، كلمات قليلة قالها أخيراً هورست زيهوفر، وزير الداخلية الألماني، جعلت منه «نجم» الحكومة الجديدة. ذلك أن الوزير اليميني المحافظ الذي لم يكن قد مضى على توليه منصبه ساعات قليلة عندما أدلى بتصريحاته هذه، نجح في تسليط الأضواء عليه، داخل ألمانيا وخارجها. وأبرز الجدل الكبير المستمر منذ أسابيع، الذي تسببت به هذه التصريحات، حجم الخلافات داخل الحكومة الائتلافية الهشة التي استغرق تشكيلها أكثر من خمسة أشهر. ذلك أن المستشارة أنجيلا ميركل، التي أدخلت زيهوفر - حليفها الانتخابي القديم في ولاية بافاريا - إلى التشكيل الحكومي لم تتردد في مناقضة فحوى كلامه، والتأكيد على أن «الإسلام بات جزءاً من ألمانيا». وأيضاً عارضه حليفه الآخر في الحكومة الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). كذلك رفضت كلام زيهوفر جميع أحزاب المعارضة... طبعاً باستثناء حزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف الذي اتهم وزير الداخلية بـ«سرقة» جمل من برنامجه الانتخابي. هذه الضجة الكبيرة التي أثارتها تصريحات زيهوفر، كان لها وقع مزدوج في ألمانيا كونها صدرت عن وزير الداخلية... أي الوزير الذي يحمل بيده برمجة وتطبيق سياسة الهجرة واللجوء والأمن الداخلي، ما يعني أنها قد تكون مؤشراً حقيقياً لبعض توجهات الحكومة الجديدة فيما يتعلق بسياسة اللجوء.
في صيف عام 2015، كانت ولاية بافاريا، بجنوب ألمانيا، تعج باللاجئين الذي وطأوا أرضها فور عبورهم الحدود من النمسا.
أفواج وأفواج من النساء والأطفال والعائلات كانت تصل كل يوم إلى ألمانيا. وفي عطلة أسبوع واحدة ببداية سبتمبر (أيلول) من ذلك العام عبر 20 ألف لاجئ الحدود ووصلوا مدينة ميونيخ، عاصمة بافاريا. كانت هذه الأيام والأسابيع الأولى لموجة اللاجئين السوريين الذين كانوا يعبرون بحراً وبراً من تركيا للوصول إلى ألمانيا مستفيدين من «سياسة الأبواب المفتوحة» التي أعلنت عنها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حينذاك.
- بداية أزمة اللجوء
في تلك الفترة، كان يصل اللاجئون في قطارات إلى ميونيخ، ويجدون مواطنين ألماناً في استقبالهم داخل المحطات حاملين الزهور. وكانت أفران الخبز تعمل ساعات إضافية في الليل كي تخبز وتوزّع على اللاجئين الواصلين، كما كان السكان يرسلون لهم تبرّعات عينية من ثياب وضروريات، إلا أن الوضع تبدّل. فبعد أسابيع قليلة، أخذت «حماسة» الألمان العاطفية تفتر. وتراجعت أعداد أضاميم الزهور والتبرعات. وبدأت تحلّ محلها الهمسات والتساؤلات القلقة مثل إلى متى ستبقى حدودنا مفتوحة؟ وكم لاجئ بعد سنسمح له بالدخول؟
همسات راحت تعلو حتى وصلت إلى حد تهديد البعض باستخدام القوة لوقف دخول اللاجئين. وكان الصوت الأعلى ذلك الصادر عن تهديد رئيس حكومة ولاية بافاريا آنذاك، هورست زيهوفر، الذي برز كأحد أشرس معارضي قرار ميركل في سماحها لمئات آلاف السوريين بالدخول إلى ألمانيا. ومقابل شعار ميركل الشهيرة «نستطيع فعل ذلك»، في إشارة إلى قدرة ألمانيا على استيعاب أعداد كبيرة اللاجئين، برز شعار معاكس تماماً أطلقه زيهوفر هو «لا يمكننا تحمل المزيد».
في حينه، أثار كلام زيهوفر جدلاً كبيراً، على الأقل في الصحافة الألمانية. ولم يمرّ تهديده بإغلاق حدود ولايته مع النمسا «لحماية بافاريا»، من دون صراخ مقابل من الصحافة بأن ذلك مخالف للقانون وأنه لا يحق لولاية أن تغلق حدود البلاد. بيد أن زيهوفر واصل حملته المناهضة لاستقبال طالبي اللجوء، بل وهدّد بمقاضاة ميركل واللجوء إلى المحكمة الدستورية لإجبارها على وقف استقبالهم وإغلاق الحدود بوجههم. وعلانية، وبصورة غير مسبوقة، لم يتردد الزعيم البافاري اليميني في انتقاد حليفته المستشارة الاتحادية بشراسة لم يظهرها أي من خصومها السياسيين.
- علاقة حزبية استثنائية
مع هذا، فإن العلاقة القديمة بين الجانبين لم تتأثر، رغم هذه المطبات. إذ تجمع بين حزب ميركل، أي «الاتحاد الديمقراطي المسيحي»، وحزب زيهوفر «الاتحاد الاجتماعي المسيحي» في بافاريا علاقة وطيدة تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي تلك الحقبة اتفق الحزبان المحافظان على الحكم معاً مع امتناع الديمقراطيين المسيحيين عن ترشيح مرشحين عنه في بافاريا مقابل امتناع الاجتماعيين المسيحيين عن خوض الانتخابات في باقي الولايات الألمانية.
ومع أن الخلافات حول سياسة اللجوء مستمرة منذ عام 2015 بين الطرفين، فلقد صمد حلف الحزبين الشريكين واستمر بثبات. لا بل تعمق أكثر مع إدخال زيهوفر شخصياً إلى الحكومة الاتحادية، بعد تخليه عن زعامة الاجتماعيين المسيحيين ورئاسته حكومة ولاية بافاريا، وتسليمه حقيبة الداخلية الاتحادية رغم معارضته سياسة ميركل إزاء اللاجئين وطالبي اللجوء.
ولعل ما يمكن اعتباره مؤشراً لافتاً إلى مدى الاختلاف بين ميركل وزيهوفر، علاقة كل منهما برئيس وزراء المجر اليميني المتطرف فيكتور أوربان، الذي فاز حزبه بالانتخابات النيابية المجرية قبل أيام محققاً أغلبية مريحة تسمح له بالبقاء على رأس السلطة. وأوربان، كما تجدر الإشارة، زعيم يميني متطرف وشعبوي دأبه مهاجمة الإسلام واللاجئين والاتحاد الأوروبي. وهو حالياً يُدرج في خانة زعماء اليمين المتطرف في أوروبا من أمثال مارين لو بان في فرنسا وخيرت فيلدرز في هولندا. وفي حين تربط هذا الرجل علاقة عمل أقل من عادية بميركل، فإن علاقته بزيهوفر قريبة جداً من الحميمية. وعندما فاز حزب أوربان قبل أيام في انتخابات المجر، أعلن متحدث باسم ميركل أن المستشارة هنأته على الفوز، بينما أعرب زيهوفر صراحة وبحماسة عن «سعادته» بفوز أوربان.
- خطاب التطرف
أكثر من هذا، تعود علاقة زيهوفر بأوربان إلى بضع سنوات خلت، وتحديداً إلى صيف عام 2015، عندما كانت أزمة اللاجئين تغرق أوروبا. فيومذاك، دعا زيهوفر الزعيم المجري للمشاركة في مؤتمر للاجتماعيين المسيحيين في بافاريا، وتحدث للإعلام عن إعجابه به. وهنا يقول البعض إنه «إعجاب» عائد لرفض أوربان استقبال أي لاجئ في بلاده، ومعارضته لـ«الكوتا» (الحصة) التي فرضها الاتحاد الأوروبي لتوزيع اللاجئين على دول الاتحاد.
واليوم، بعدما غدا زيهوفر وزيراً للداخلية الألمانية، فإنه يحاول تطبيق سياسات متشددة تجاه اللاجئين وطالبي اللجوء. وما يذكر أنه كان قد تعهد، حتى قبل تسلمه منصبه، برسم خطة كبيرة لتسريع ترحيل اللاجئين المفروضين، وأولئك الذين ارتكبوا جرائم. وتتحدث وزارة الداخلية راهناً عن بناء مجمّعات تأوي اللاجئين، على هامش المجتمع، قبل ترحيلهم. ثم إن الضغوط التي مارسها على ميركل إبان مفاوضات تشكيل الحكومة دفعتها إلى القبول بشرطه الحد من أعداد اللاجئين الذين يحق لهم دخول ألمانيا ضمن سياسة «لم شمل العائلات»، أي التحاق طالبي اللجوء بعائلاتهم، وحصرها بألف لاجئ شهرياً فقط.
ولكن خلف تشدد زيهوفر هذا حيال اللاجئين أسباب أخرى، إلى جانب كونه سياسي يميني محافظ. وهو أنه على الرغم من أن حزبه حصد الكثير من المقاعد في «البوندستاغ» (مجلس النواب الاتحادي الألماني) خلال الانتخابات النيابية العامة الأخيرة، فإنه حصته من المقاعد تراجعت في أسوأ نتائج حققها الحزب منذ العام 1949. والأسوأ، أن الأصوات التي خسرها الديمقراطيون المسيحيون والاجتماعيون المسيحيون ذهبت لصالح حزب «البديل لألمانيا» المتطرف في يمينيته وعدائه للأجانب الذي بنى حملته الانتخابية على الدعوة لإعادة اللاجئين إلى بلدانهم، والتهجم على ميركل بسبب سماحها لأعداد كبيرة منهم بدخول ألمانيا. وللعلم، فور صدور النتائج في نهاية سبتمبر الماضي، خرج زيهوفر ليعلن أمام الصحافيين: «لقد وصلتنا الرسالة»!
- محاولة استعادة المبادرة
وبالفعل، تبدو كل تحركات زيهوفر منذ ذلك الحين، وكأنها تركّز على استعادة الأصوات اليمينية التي خسرها حزبه في الانتخابات البرلمانية، تأهباً للانتخابات المحلية المقررة في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. وحقّاً، حين انتقد زيهوفر «الإسلام» اعتبر محللون بأن ما يقصده فعلياً «اللاجئ» أو «طالب اللجوء» المسلم وليس الدين الإسلامي بحد ذاته، لكنه تعمد اختيار «لغة شعبوية» تصل بسهولة أكبر لناخبيه.
ومن هنا يعتقد كثيرون أن الانتخابات المقبلة في ولاية بافاريا ستكون انتخابات مصيرية لهذا الحزب، كونه غير موجود في ولاية أخرى. وقياساً على الانتخابات العامة، فإن التوقعات تشير إلى أن «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف سيدخل البرلمان المحلي في بافاريا للمرة الأولى. وهو ما يشكل تهديداً مصيرياً للديمقراطيين المسيحيين. كذلك يعتقد البعض أن خسارة الاجتماعيين المسيحيين غالبيتهم في البرلمان البافاري المحلي لصالح اليمين المتطرف سيكون من الصعب عكسها. وانطلاقاً من هذه المخاوف، يبدو زيهوفر مصرّاً على إدخال سياساته المحافظة إلى الحكومة الاتحادية وتمرير أكبر عدد منها، حتى وإن أدى ذلك للصدام مع ميركل. ويمكن النظر إلى تصريحاته حول الإسلام كالامتحان الأول في ذلك، خصوصاً أنه رفض التراجع عن تصريحاته حتى بعد «توبيخ» ميركل له علنا، ومناقضته واعتبار كلامه غير منطقي.
- من هو زيهوفر؟
في مطلق الأحوال، يتوقع المراقبون أن تتيح حنكة هورست زيهوفر السياسية، وأيضاً تاريخه الطويل في هذه اللعبة، له بالحفاظ على علاقته الضرورية مع ميركل في موازاة انتقادها ومواجهتها للحصول على مبتغاه.
دخل زيهوفر عالم السياسة عام 1971 عندما كان يبلغ من العمر 22 سنة، عندما انضم إلى حزبه، وواصل صعوده حتى تسلمه زعامة الحزب عام 2008. ولكن، منذ انضمامه إلى الحزب، لم يحصل الاتحاد الاجتماعي المسيحي يوماً على أقل من نصف أصوات الناخبين في بافاريا باستثناء عام 2008 عندما حصد 43 في المائة من الأصوات، ما استوجب حينئذٍ تغييراً سريعاً في القيادة أوصلته إلى أعلى الهرم. مقرّبون يصفون زيهوفر بأنه «سياسي بالفطرة»، وأنه «لم يدخل السياسة كي يجمع أصدقاء»، كما يقول بعضهم أنه لا يتردد في أن يكون «قاسياً مع منافسيه السياسيين». وفي المقابل، رغم انتمائه إلى حزب محافظ، فإن ثمّة فضيحة تفجّرت عام 2007 كادت تنهي مستقبله السياسي عندما كُشف النقاب عن أنه أنجب ابنة خارج إطار الزواج بعد ارتباطه بعلاقة مع فتاة أصغر منه بكثير. وخوفاً من أن تنهي العلاقة مستقبله السياسي، عاد زيهوفر إلى زوجته وأطفاله الثلاثة، ولكن صورته كـ«رجل عائلة» كانت قد تضرّرت كثيراً في عيون ناخبيه. ولفترة وجيزة انزوى بعيداً عن الأضواء.
في عام 2007 نفسه، قبل الانتخابات التي حملت خسائر كبيرة للحزب، انتخب إروين هوبر زعيماً للحزب وغونثر بيكشتاين رئيساً للحكومة البافارية. غير أن الرجلين ما كانا يتمتعان بالمزايا القيادية اللازمة، ومعهما تعرض الحزب لأسوأ نكسة له في العام التالي، فاضطر الحزب لإزاحتهما وتسليم الزعامة إلى زيهوفر الذي يتمتع بـ«الكاريزما» المطلوبة.
- لم يتخرج في جامعة
أكاديمي يعرف زيهوفر منذ 20 سنة يقول عنه إن لديه طريقة سهلة للتواصل مع الناس، «فهو يجيد الإصغاء، ويفهم على الفور ما هو المهم بالنسبة للذين يتحدث معهم». ويضيف أنه «يتمتع بحس فكاهة قد لا يفهمها أو يقدرها الجميع». ومن ناحية أخرى، فإنه الزعيم الوحيد للاجتماعيين المسيحيين الذي لم يدرس في جامعة ولا يحمل شهادات عليا. فهو ابن عائلة متواضعة، وكان أبوه سائق شاحنة. وبعد تخرّجه في المدرسة، بدأ العمل في وظيفة متواضعة بالحكومة المحلية في مدينة إينغولشتات. ثم راح يترقى في المسؤولية حتى تسلم منصباً إدارياً. وهو يقول عن نفسه إنه «محام بالخبرة»، قاصداً القول إنه يستطيع اتخاذ قرارات بناءً على ما يلمسه وليس على ما درسه.
بدأ زيهوفر الترقي في السياسة - كما سبقت الإشارة - بعد انضمامه لحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي في سن 22 سنة. وقبل تسلمه منصب وزير الداخلية الاتحادي خدم في حكومة المستشار هيلموت كول بين عامي 1992 و1998 وزيراً للصحة والخدمات الاجتماعية، ثم تولى منصب وزير الزراعة والطعام وحماية المستهلك بين 2005 و2008. وكان قد دخل «البوندستاغ» للمرة الأولى في أكتوبر 1980 وبقي فيه حتى عام 2008 حين غادره ليصبح زعيم حزبه ورئيس حكومة بافاريا.
ومثل ذلك الحين، عندما استنجد به الاجتماعيون المسيحيون لإنقاذهم بعد الخسارة الانتخابية الموجعة، يجد زيهوفر اليوم نفسه في موقف مشابه، إذ يسعى لانتشال حزبه من السقوط قبل أن يتلقى الضربة التالية. ومع أن بيده هذه المرة عدة أقوى يستطيع استخدامها هي وزارة الداخلية الاتحادية، فإن المهمة أصعب بكثير، والمنافسة قد لا تكون سهلة مهما كانت التصريحات التي يصدرها أو القرارات التي يتخذها من منصبه. ذلك أن سكان بافاريا يرددون اليوم «ولت الأيام التي يعتبر فيها الاتحاد الاجتماعي المسيحي فوزه في الولاية أمراً مُسلّماً به».
7:49 دقيقة
هورست زيهوفر«الكاريزمي» الشعبوي
https://aawsat.com/home/article/1236596/%D9%87%D9%88%D8%B1%D8%B3%D8%AA-%D8%B2%D9%8A%D9%87%D9%88%D9%81%D8%B1%C2%AB%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B2%D9%85%D9%8A%C2%BB-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%88%D9%8A
هورست زيهوفر«الكاريزمي» الشعبوي
وزير الداخلية الألماني اليميني المتشدد في ملفّي اللجوء والإسلام
- برلين: راغدة بهنام
- برلين: راغدة بهنام
هورست زيهوفر«الكاريزمي» الشعبوي
مواضيع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة