فاي فلام
TT

«جين الفضاء» سقطة جديدة للكتابات العلمية

ما الذي قد يدفع وكالة «ناسا»، وعدداً من المصادر الإخبارية الأخرى، لإعلان أن توأمين متطابقين يعملان رائدي فضاء، وهما سكوت ومارك كيلي، لا يزالان توأمين؟ الأمر لا يحتاج إلى عالم فضاء لمعرفة أنه رغم قضاء سكوت كيلي عاماً في الفضاء الخارجي، فإن مثل هذه التجربة لن تغير شيئاً في علاقاته البيولوجية. بالتأكيد قد يختار زوج وزوجة في أي لحظة إنهاء علاقتهما، لكن كيف يمكن للفضاء أن يقطع العرى القائمة بين الأشقاء أو مع الآباء أو بين التوائم؟
وقد اتضح أن البيان الصادر عن «ناسا» في هذا الشأن كان أحد التداعيات المترتبة على قضية رديئة على صعيد التواصل العلمي. بدأت القضية بمحاولة من جانب وكالة الفضاء لتعزيز الدعاية حول بعض الأبحاث الحالية حول تأثير الفترة الطويلة التي قضاها سكوت كيلي بالفضاء على الجانب الفسيولوجي به.
وبدت القصة برمتها شيقة، ليس فقط لأن سكوت حطم الرقم القياسي للبقاء لفترة طويلة في الفضاء، وإنما كذلك لتمكن العلماء من مقارنة عينات من دمه ولعابه وبوله بأخرى تخص شقيقه التوأم. وفي خضم ترويجها لهذه الأبحاث، طرحت «ناسا» على المتابعين العاديين مصطلح «جين الفضاء».
بيد أنه في نهاية الأمر، حملت هذه القضية كثيراً من الدروس المستفادة للعلماء حول مخاطر محاولة صياغة مصطلحات علمية جديدة.
في وقت سابق من العام، أفادت كثير من المؤسسات الإخبارية بأن «جين الفضاء» جرى تفعيله على نحو غامض، وتسبب في تغييرات في الشفرة الجينية لدى سكوت كيلي، إلا أن تفسيراً لم يطرح لكيفية حدوث ذلك. ودفعت هذه الأنباء كلاً من مارك وسكوت لكتابة «تغريدات» عبر موقع «تويتر»، قالا خلالها إنه لم يعد أي منهما مضطراً لوصف الآخر بأنه شقيق توأم. وتشير الاحتمالات جميعها إلى أن هذا القول لم يعدُ كونه مزحة، خصوصاً أن الأشقاء التوأم يشتهرون بإطلاق مثل هذه النكات، إلا أن هذا الحس الفكاهي للتغريدات غاب عن برامج مثل «ذي توداي شو» وغيرها، التي تعاملت مع انفصام عرى التوأمة بين الشقيقين بجدية.
ويبدو أن المشكلة بدأت ببيان صحافي من جانب وكالة «ناسا»، وردت به العبارة التالية في أعقاب كثير من الإشادة بأهمية الدراسة الجديدة:
«تتمثل نتيجة مثيرة أخرى فيما يطلق عليه البعض (جين الفضاء)... الباحثون يعرفون الآن أن 93 في المائة من جينات سكوت عادت إلى طبيعتها بعد هبوطه على الأرض. ومع هذا، تبقى 7 في المائة تعكس تغييرات طرأت على الجينات».
وقد جرى تعديل البيان لاحقاً، مثلما الحال مع كثير من القصص الإخبارية المنشورة عبر شبكة الإنترنت حول هذا الأمر، لكن لا تزال لديّ نسخة «بي دي إف» من هذا البيان. ويتسم هذا البيان بكونه يبدو كما لو كان منطقياً، رغم خلوه التام من أي منطق. وشرحت بعض الأخبار اللاحقة للقراء أن «جين الفضاء مصطلح جديد لا تزال تجري صياغة تعريفه».
من جانبه، أقر اختصاصي علم الوراثة كريستوفر ميسون، الذي يتولى قيادة الفرق التي تعكف على دراسة جينات التوأم، في حديث معي أنه اخترع هذا المصطلح كي يضمن التصاقه بالأذهان.
من ناحية أخرى، لا يطرح البيان الصحافي الأصلي الصادر عن «ناسا» تعريفاً لمصطلح «جين الفضاء»، لكنه يكتفي بطرحه على القارئ، كما لو أنه يعي جيداً المقصود منه.
ومن جانبه، شرح ميسون أن المقصود من المصطلح الإشارة إلى جميع الجينات التي تأثرت بالرحلة الفضائية، أي 7 في المائة من إجمالي جينات كيلي الـ60 ألفاً، لكن لسبب ما زاد البيان الصحافي الصادر عن «ناسا» من حالة الاضطراب والارتباك، عبر الإشارة إلى جين فضاء واحد بلفظ المفرد.
وفي الواقع، لو كان ميسون يرغب في إقرار هذا المصطلح الجديد في المواد الصادرة عن «ناسا»، لكان ينبغي له أن يرفق معه تعريفاً واضحاً.
أما بالنسبة لما حدث بالفعل للحامض النووي الخاص بسكوت كيلي، فإن الواضح أن بعض الصحافيين سوف يفترضون أن بعض الطفرات طرأت على الجينات. ربما حدث ذلك، خصوصاً أنه من المعروف منذ سنوات أنه خارج نطاق الحماية التي يوفرها الغلاف الجوي للأرض، والحقل المغناطيسي لها، يصبح رواد الفضاء عرضة للتعرض لإشعاعات تضر الحامض النووي. ومن الممكن أن يتسبب الضرر المفرط في الحامض النووي إلى جعل الخلايا خبيثة. كما يتعرض الناس على الأرض هنا لطفرات أيضاً، خصوصاً في الخلايا سريعة الانقسام أو التي تتعرض للشمس. ويملك الإنسان نسخاً من حامضه النووي في تريليونات الخلايا، ومن الممكن أن يتعرض بعضها للضرر بمرور الوقت.
من جانبه، قال ميسون إن الباحثين يعكفون على محاولة التوصل لقياس معدل الطفرات التي وقعت بسبب الانتقال إلى الفضاء، إلا أنهم لن يكشفوا عن أي بيانات في الوقت الراهن. وبمرور الوقت، اتضح أن البيان الصادر عن «ناسا» كان من المفترض أنه يتناول شيء يطلق عليه «التفاعل الجيني».
و«التفاعل الجيني»، مصطلح علمي حقيقي، هو ما يفسر كيف تحمل العظام والجلد وخلايا الكبد الحامض النووي ذاته، لكنها تضطلع بأدوار مختلفة. ويمكن لتأثيرات بيئية إحداث تغيير في التفاعل الجيني في خلايا مختلفة، الأمر الذي قد يؤثر على صحة المرء.
ويبقى التساؤل: هل نسبة الـ7 في المائة التي ذكرها بيان «ناسا» أمر خطير؟
- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»