سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

نموذج قرطبة يصارع عين النافورة في الجزائر!

القصة رغم حدوثها بشقيها في الجزائر، فإنها تظل مطروحة في كل عاصمة عربية، وتبقى حية في كل بلد عربي يعرف بطبيعة الحال فريقين؛ فريقاً يريد اللجوء إلى الماضي، ولا يرى عنه بديلاً، وآخر يرغب في السفر إلى المستقبل، ويرى الذهاب إليه تجاوباً مع عصر نعيش فيه، ويعتقد في أنه لا سبيل إلى التجاوب مع عصرنا إلا بالعيش وفق حقائقه، والتعامل مع تحديات تميزه، والاستجابة لضرورات تفرضها طبيعته، والتحدث باللغة التي تفهمها هذه الطبيعة!
وقد كان الشق الأول من القصة حين التقى في الجزائر العاصمة وزيران؛ أحدهما هو الجزائري محمد عيسى، والثاني هو الفرنسي جيرار كولومب. كلاهما مسؤول عما يخص الشؤون الدينية في عاصمة بلده، وكلاهما يحب أن تكون هذه الشؤون فاعلة في اتجاهها الصحيح!
كان اللقاء في الأسبوع الثالث من مارس (آذار)، وكان جدول أعمالهما ممتلئاً بأكثر من قضية، غير أن القضية الأهم فرضت نفسها عندما خرجا معاً على وسائل الإعلام، بعد لقائهما، ليعلنا معاً أنهما اتفقا على شيء مهم؛ بل أهم، هو العمل على إحياء نموذج إسلام قرطبة!
أما قرطبة، لمن لا يعرف، فلقد كانت عاصمة دولة الإسلام في الأندلس، وقت أن قامت له دولة هناك دامت ثمانية قرون من الزمان، وكانت نهايتها عام 1492 حين سقطت غرناطة، آخر المدن الباقية في تلك الدولة التي وصلت بحدودها ذات يوم إلى جنوب فرنسا، وقد كادت تتجاوز الجنوب إلى الشمال الفرنسي، ومنه إلى بقية أوروبا، لولا معركة بلاط الشهداء، ولكنها قصة أخرى!
وكان ابن رشد هو الملمح الأبرز في وجه قرطبة، ولا يزال اسمه مرتبطاً بها، ولا يزال اسمها مرتبطاً به، فلا يذكرها أحد إلا ويذكره معها، ولا يذكره أحد إلا ويذكرها معه، ولا يزال لقب «فيلسوف قرطبة» واحداً من بين ألقابه الكثيرة التي تدل عليه! ولأنه فيلسوف، ولأنه صاحب الكتاب الشهير «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال»، ولأن انحيازه كان إلى العقل في المقام الأول، فإنه كان يُعلي دائماً من مكانته في الإسلام، وكان يقصد العقل الذي إذا حضر غاب التشدد، وتوارى التطرف، ولم يعد للإرهاب المتستر بالدين مكان!
هذه هي معالم نموذج إسلام قرطبة، الذي أحس الوزيران عيسى وكولومب، أنهما أحوج إلى الدفع به إلى الصدارة، وأنه أحوج النماذج إلى المساعدة، وأنه نموذج يجب ألا يغيب، وأن في حضوره قبولاً للآخر طول الوقت، وتسامحاً إزاءه، وتعايشاً معه، واعترافاً باختلافه، مهما كان لونه، ومهما كان جنسه، ومهما كان دينه، ومهما كانت معتقداته التي يوقن فيها ويؤمن بها!
فالله - تعالى - هو وحده الذي سوف يحاسب الناس على معتقداتهم، ولا أحد سواه يملك هذا الحق، والله - تعالى - هو وحده الذي منح العقل لكل إنسان، وترك له أن يختار، وسوف يحاسبه على اختياره، ما دام اختياراً حراً لا ضغط فيه ولا إكراه. وهذه هي الحكمة الظاهرة في رفع التكليف عن غير صاحب العقل!
وفي هذا السياق، فإنني أتساند دائماً على آيتين كريمتين تقولان كل شيء في الموضوع. أما إحداهما فتقول: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين»، وأما الثانية فتقول: «ولو شاء ربك لآمن مَنْ في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».
وليس بعد معناهما الواضح مجال لكلام يقال. وقد كان إسلام قرطبة يقف على خط واحد معهما، ويتسق مع المنطق الناصع في كل آية منهما، وربما كان هذا المعنى العميق فيهما، هو الذي جعل ذلك النموذج الإسلامي الأندلسي حياً على مدى قرون ثمانية أضاء خلالها أرض الأندلس كلها، وكان هو أيضاً الذي جعل منه نموذجاً باقياً إلى بدايات القرن الحادي والعشرين!
ولم يكن نموذجاً باقياً فقط؛ لكنه بقي النموذج الأفضل، وإلا ما كان الوزيران الجزائري والفرنسي قد فضلاه على غيره من النماذج، وما كانا قد دَعَوَا في وقت واحد، وبصوت مشترك، إلى إحيائه واستلهامه؛ لأنه الأقدر على التعبير عن جوهر الدين، وعن مضمونه، وعن مقاصده العليا، ولأنه الأقدر كذلك على أن يفهم الناس في كل مكان، أن روح الإسلام تأبى أن يكون الفكر المتشدد وجهاً من وجوه التعبير عنه، أو أن يكون السلوك المتطرف عنواناً له في هذا العالم المعاصر، أو أن يكون إرهاب الآخرين لغة في هذا العصر، ولا في أي عصر!
كان هذا هو الشق الأول من القصة. أما شقها الثاني فكان جدلاً دار، وربما لا يزال دائراً، بين عز الدين ميهوبي، وزير الثقافة الجزائري، من جانب، وبين نواب محسوبين على التيار الإسلامي، رفضوا من جانب آخر بقاء تمثال عين النافورة في ميدان من ميادين منطقة سطيف هناك، وطلبوا نقله إلى المتحف! لقد رأوا فيه نوعاً من العُري الذي يؤذي عيون المارة أو يجرح مشاعر عابري السبيل!
وقد اشتد الجدل بين الطرفين وازداد سخونة، إلى حد أن الوزير ميهوبي رفض مطالب نقل التمثال، وأعلن في شجاعة تُحسب له أن الذين يطلبون نقله إلى المتحف، هُم الأجدى بالانتقال إلى المتحف والبقاء في داخله، إلى أن يكونوا قادرين على التعايش مع عصرهم بشكل طبيعي!
فليس في أوروبا كلها ميدان إلا وفي القلب منه تمثال من نوع عين النافورة، ولم نسمع في يوم أنه قد سبب أذى لعين أحد، ولا سمعنا أن مواطناً أوروبياً طبيعياً قد اشتكى يوماً من سوء المنظر الذي يجسده التمثال أمام عينيه، ولكن سمعنا ورأينا أن الميادين كانت تزدان طول الوقت بالتماثيل، بوصفها فناً يوفر في كل أحواله متعة بصرية لكل عين، ويجعل من المنظر العام ساحة من ساحات الجمال!
ولم يحدث أن رأى مواطن أوروبي عُرياً في أي تمثال، ولا رأى في تفاصيله خروجاً على الذوق العام؛ لأن المواطن نفسه يظل يرى في كل التماثيل آية من آيات الفن التي تغذي العين، بقدر ما تملأ الروح بالبهجة والفرح والإقبال على الحياة، وتملأ الإنسان بالقيم التي تحرضه على التأمل في أسرار خلق الله!
وليست الجزائر فريدة من نوعها في القصة بشقيها، وكذلك بأبعادها ومعانيها؛ ففي كل بلد عربي تقريباً سوف تجد فريقاً يميل إلى نموذج إسلام قرطبة، ويتمناه نموذجاً حياً، ومنتشراً، وسائداً، ويريده طريقاً إلى مستقبل لا مفر من الوصول إليه. وسوف تجد فريقاً آخر في المقابل ينشغل بنموذج عين النافورة في يقظته وفي منامه، ويهرب معه إلى ماضٍ انقضى وقته وفات أوانه!
ولا سبيل لنا إلى عتبات المستقبل، إلا بانتصار نموذج قرطبة؛ لأنه النموذج الذي ينتصر للحياة!