سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

ارحموا الكتاب

ليس عيباً أن يتفنن الناشرون في تسويق نتاجاتهم، وأن يجعلوا من كتب الطبخ مؤلفات على شكل طبق «لازانيا» أو قطعة «بيتزا» أو قالب حلوى، وأن يقدم كتاب للأبراج على شكل كوكب غرائبي، ويزدان المؤلف الأدبي بالصور ويقرن بأسطوانة مدمجة إغراء بالسمع بدل القراءة، فكل الطرق تؤدي إلى روما. وحداثة الطرح لا تقلل من قيمة المحتوى ولو كان طبخاً أو تحليلاً للنفس. ودخول «الماركتينغ» عالم النشر، من أسبابه الكساد، وحدة المنافسة، وتغير ذائقة القارئ. ومع تزايد التحديات بقيت دور النشر العربية، إلا فيما ندر، على كلاسيكيتها في الطرح والتسويق وبطء التوزيع. وفي آخر التقليعات أنها أوكلت مهمة الترويج للكتّاب أنفسهم، الذين حولوا صفحاتهم للتواصل الاجتماعي إلى شبكة لاصطياد القراء، ومعارفهم إلى شراة محتملين، وعلاقاتهم الودية مطية للوصول. ولجأت أحلام مستغانمي إلى نشر أجزاء من كتاب لها قبل النشر، وخاطبت قراءها على صفحاتها واستمالتهم، قبل أن تلتقيهم في معرض الكتاب في بيروت لتوقيع «الأسود يليق بك» وسط حشود لم يكتب لنزار قباني في عزّ شهرته أن يشهد مثيلاً لها. وهذا لا عيب فيه، فلكل ما يهوى. لكن في المقابل، لا تسجل كاتبة مخضرمة لها تاريخها الأدبي الممتد مثل حنان الشيخ ظاهرة مماثلة، قد يكون لقلة حنكتها الشخصية في التسويق. كذلك لم تجد روايات ليلى بعلبكي عند إعادة طباعتها، رغم ما تركته في الستينات من أثر، جمهوراً يتهافت للحصول عليها، مع أن «دار الآداب» لها في الانتشار ما هو معروف عنها، وفي الحيوية ما تغبط عليه.
ويكاد الجيل الأكبر يدفع الثمن باهظاً ليحل مكانه شبان ليسوا بالضرورة أدباء من الصنف الرفيع، ولا داعي لذكر أسماء كي لا يبدو الأمر استهدافاً، حتى صارت روايات إلياس خوري ورشيد ضعيف وحتى حسن داود وهدى بركات، تمر سريعاً، ويكاد القارئ العادي المأخوذ بالبهرجة، لا يعلم بالضرورة بوجودها، فيما يطير نجم كتاب ليس له من أهمية سوى عنوانه البراق أو صورة صاحبه الفتانة، ويتسابق عليه الشراة.
حسابات مراوغة لا صلة لها، في أحيان كثيرة، بمضامين الكتب، ومهارة المؤلف، بقدر ما تخضع لشطارة توزيع الخبر، وتجميل الصورة، وتكثيف النشر حول الكتاب، والعثور على من يمتدحه ويكرر ذكر أو كتابة اسمه، في كل مكان، كمطرقة تقرع الآذان، حتى يبدو للقارئ أن الحصول عليه ضرورة لا تفوت. وجاذبية أموال الجوائز ليست بريئة من كل ما يحصل.
وكما في الاحتفاليات المعهودة، اجتمع العرب على إحياء «يوم الكتاب العالمي وحقوق المؤلف» هذه السنة بافتتاح المكتبات، وإحصاء الإصدارات والابتهاج بالقراءات، دون الخوض في عمق مشكلة تأكل من مصداقية كل ما له صلة بالنشر والكتابة والمؤلفات. وإذا استمر الأمر على هذا الحال، لن تعمّر طويلاً موجة «عشق» الروايات قبل أن تخمد، كما مات الشعر ونامت الدواوين في المخازن يتآكلها الغبار، وقد أصبح فجأة كل عربي شاعراً. فالقارئ لن يقبل السقوط في فخ الخديعة تكراراً، ويدفع مع ضيق ذات اليد، ثمن كتب لا متعة ولا حبكة فيها توصله إلى صفحاتها الأخيرة.
وفي فوضى الترويج والتنافق حول النصوص وعبقريتها، وبينها ما تنهشه العنصرية، وينخره التعصب، وتمجه الذائقة لفجاجة التعابير، ثمة فرص تضيع ومواهب تدفن، وأدباء يقضون قبل أو يولدوا لأن ما كتبوه لم يرق للبعض أو يناسب القبيلة أو أنهم لم يجدوا الحيلة للإشهار والإبهار.
ليس كل مروج عديم الموهبة، ولا كل مغمور مضطهدا، لكن رفقاً بالكتّاب. فالمبدعون الحقيقيون كائنات هشة، ويفترض بها أنها صادقة، لا يليق بها قتل الوقت في تبادل المجاملات، وتشتيت الذهن في حفلات توقيع منهكة شبه يومية، والتسمر في ندوات حول كتب هي قصّ ولصقّ، لمجرد تأمين عدد لائق من المدعوين، لحفل الكتاب المقبل، يوم يبصر النور. وتجرّأ كاتب فرنسي، أحزنه ما رآه في معرض الكتاب في باريس، على القول للناشرين: «ارحموا الكتاب فهم ليسوا بقرات تحلبونها» بعد أن جال على دور النشر متأملاً حال بعضهم ينتظرون بفارغ الصبر من يأتي طلباً لتوقيعهم، وفي عيونهم أرق الفشل أمام ناشريهم الذين يترقبون الربح.
شائع أن تسمع أديبة عربية كبيرة تشكو التهميش لأنها لا مزاج لديها ولا قدرة على دعوة الأصدقاء وتنظيم اللقاءات، وآخر متأكد أنه لن يحصل يوماً على جائزة لأنه يمجّ المسايرات والعلاقات العامة، والحال يزداد سوءاً.
الكتاب أداة معرفة، وتثقيف للروح، وما يرافقه عربياً، في أحيان كثيرة، محبط، ولا علاقة له إلا بفقاقيع الصابون. «أليست هناك أشياء نمارسها، لمجرد أنها جديرة بالممارسة لذاتها؟ أليست هناك متع هي الوسيلة والغاية معاً؟ أو ليست القراءة من بينها؟» هذه التساؤلات التي تحمل إجاباتها في طياتها، لفرجينيا وولف، وهي امرأة أيقظت الضمائر بقلمها، ومسّت نساء العالم بتجربتها، تبدو شديدة الرومانسية في زمننا الذي أفسدته المطامع السريعة والصغيرة، لكنها اخترقت الزمن وصمدت. وما نحتاجه هو أدب عابر للأجيال، مستنهض للإرادات، كاشف للرؤى، بريء من الانتهازية، وهذا موجود ويلزمنا الاحتفاء به وتشجيع كتابه وإنقاذهم باستمرار، قبل أن يبتلعهم اليأس. فإما أن نرحم الكتاب أو سنضطر لأن نترحم عليه.