سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

صورة «شيلفي»!

كان المؤرخ الأميركي الشهير ويل ديورانت هو الذي سجل في موسوعته الضخمة «قصة الحضارة»، أن السومريين على أرض العراق، هُم أول الذين عرفوا الكتابة، وأنها كانت أساس الحضارة التي قامت هناك، وأن الفضل يعود إليها في نقل ملامح حضارتهم إلى الذين جاءوا من بعدهم، وأن الكتابة التي عرفوها اشتهرت بأنها الكتابة المسمارية، وأنها كانت عبارة عن حروف محفورة بما يشبه الآلة الحادة على الطين، وأنها هي التي ضمنت لهم البقاء إلى اليوم، وهي التي نقلت إلينا صور الحياة القديمة بين دجلة والفرات، وهي التي كانت جسراً بيننا في القرن الحادي والعشرين، وبينهم هناك في أقصى ركن من أركان التاريخ.
وكان الفراعنة ابتداء من أول أسرة حكمت فيهم، إلى باقي الأُسرات، هُم الذين نافسوا السومريين في هذا الطريق... فليست النقوش على جدران المعابد القديمة، سوى شكل من أشكال حروف اللغة المصرية القديمة، التي لولاها ما عرفنا ماذا فعلت كل أسرة على حدة، ولا ماذا فعل الملك مينا في الأسرة الأولى، ولا خوفو في الأسرة الرابعة، ولا غيرهما إلى أن انقضى عصر الفراعنة.
وفي الحالتين، وفي سواهما كالحالة الصينية على سبيل المثال، كان وجود الكتابة هو الذي يفصل بين التاريخ، وبين اللاتاريخ... بين عصور جاءت إلينا بفضل اختراع الكتابة وحدها، وعصور غابت عنا لأن أهلها لم يعرفوا الكتابة، فلم نعرف عنهم شيئاً.
ومن الكتابة المسمارية، إلى الكتابة الهيروغليفية، إلى الكتابة الصينية القديمة... إلى غيرها؛ كلها في الحضارات البعيدة، كانت الكتابة وسيلة، وكانت الجدران هي ورق الفراعنة، بمثل ما كان الطين هو ورق العراقيين القدماء، ثم كان الكتاب هو الوسيلة الأحدث في نقل معارف قوم إلى قوم آخرين، وكان الكتاب الإلكتروني هو النسخة العصرية من الكتاب الورقي، وكان الكتاب في كل أشكاله، وفي كل أحواله، هو الذي أتاح لنا أن نطالع، وأن نعرف، وأن نحيط بما كان قبلنا على مدى قرون طويلة من الزمان. ولولاه ما انتقلت تجارب بين الأمم، ولا تراكمت معارف من زمان مضى بعيداً بعيداً، إلى زمن نعيشه، ونحياه، ونراه، ونتقلب بين أحداثه، وعلومه، ومنجزاته، وآخر تجلياته في كل صباح.
وفي هذا الأسبوع، وبالتحديد في 23 أبريل (نيسان)، كان العالم يحتفل بـ«يوم الكتاب»، وكان هذا التاريخ من اختيار منظمة التربية والعلوم والثقافة، الشهيرة باليونيسكو، وكان اختيارها قد وقع على هذا اليوم دون أيام الشهر، بل دون أيام العام كله، لسبب وجيه جداً. أما السبب؛ فهو أنه في مثل هذا اليوم مات وليام شكسبير، شاعر الإنجليز الأعظم، وفي مثله أيضاً مات ميغيل دي سرفانتس، أديب الإسبان الأكبر، ومن أجلهما قررت اليونيسكو أن يكون يوم رحيلهما عن الدنيا، يوم حفاوة بالكتاب في كل بلد.
ولأمر ليس واضحاً، كان قرار بريطانيا أن يكون يوم احتفالها بالكتاب، مختلفاً عنه في العالم، وكان اختيارها أن يكون 1 مارس (آذار) من كل سنة هو هذا اليوم... والأمر ليس واضحاً، لأن البريطانيين هُم أولى الناس بشكسبير، فهو شاعرهم دون غيرهم، وعلى أرضهم جاء إلى الدنيا، ومن فوقها غادر إلى الحياة الأخرى، وإذا قررت عاصمة على الأرض أن تحتفل به، وبذكراه، فهذه العاصمة هي لندن، فإذا شاءت عواصم أخرى أن تحتفل بصاحب «تاجر البندقية»، فموقعها في قائمة العواصم المحتفلة يأتي بالتأكيد بعد العاصمة البريطانية؛ لا قبلها!
فهل أرادوا أن يكون الاحتفال في 1 مارس، ليسبقوا الآخرين في الحفاوة بشاعرهم، ما دامت المناسبة مرتبطة به وبذكرى رحيله، فلا يهم بعد ذلك أن تجيء الحفاوة في هذا التاريخ أو ذاك؟!... ربما.
ومع ذلك، فاحتفال عاصمة الضباب بالكتاب هذا العام، لم يكن كأي احتفال... لقد جعلوه يوماً لكل كلمة مكتوبة بين غلافين، كما لم يكن لها يوم من قبل... كان الصقيع يغطي أغلب أوروبا، وفي القلب منها بريطانيا، ولكن هذا لم يمنع المكتبات، ولا المتاحف، ولا البيوت، من تنظيم احتفالات بلغ صداها أنحاء الأرض، وكأن القصد أن يقال إن القارئ الورقي لا يزال يتربع فوق عرشه، وإن القارئ الإلكتروني موجود، ولكنه ليس الأصل، وإن الكتاب مطبوعاً بين يديك يمنحك متعة لا تجدها في سواه.
ويبدو أن بريطانيا عندما رأت أن احتفالها بالكتاب يجب أن يكون في غير اليوم الذي اختاره العالم للاحتفال، كانت تقصد أن يكون احتفاؤها به فريداً، وألا يختلط وهو يجري، بأشكال احتفال أخرى على مستوى باقي الدول، وقد كان هذا هو ما تابعناه في موعده بالفعل.
ففي 1 مارس الماضي، غرد «قصر باكنغهام» على حسابه بصورة للملكة إليزابيث في صباها، وهي تطالع كتاباً مع شقيقتها الأميرة مارغريت، وكانت الصورة تحمل حفاوة ملكية بالكتاب، وليس في دول العالم مَنْ احتفى به هذا الأسبوع على هذا المستوى، ولا بهذه الطريقة.
ومن الحُكم إلى المعارضة، حيث غرد جيريمي كوربن، زعيم حزب العمال المعارض، بصورة له في أثناء الانتخابات الأخيرة، وقد افترش الأرض وسط عدد من الأطفال يطالع معهم كتاباً.
وبين السُلطة في القصر، حتى ولو كانت سلطة الملكة مسألة رمزية، وبين الزعيم المعارض على الأرض، كان احتفال المكتبة الوطنية هو الأشد لفتاً للانتباه حقاً... فالمكتبة قد غردت على موقعها بصورة لها تُظهر الكتب مرصوصة على الأرفف، وفق نظام بديع، ثم راحت تخاطب كل مهتم بالكتاب في يومه، بما معناه أن الموضة إذا كانت قد جرت على أن يلتقط كل واحد منا صورة «سيلفي» في كل مناسبة عامة، فإنها تفضل أن تكون صورتها في اليوم العالمي للكتاب، صورة «شيلفي»؛ لا «سيلفي»! فالصورة في الحالة الأولى نسبة إلى كلمة «رف» التي تعني «shelf» بالإنجليزية، ولكنها في الحالة الثانية نسبة إلى كلمة «نفس» التي تعني «self» باللغة ذاتها.
ثلاث لقطات إنجليزية بدأت من ملكة البلاد، ثم مرت برمز المعارضة، وانتهت بالمكتبة الأكثر شهرة لدى كل بريطاني، وكانت في الحالات الثلاث تؤسس لمكانة يشغلها الكتاب عندهم، كما لا يحدث معه في بلد آخر! وكانت الصورة الـ«شيلفي» هي الأعلى بامتياز.
فما أكثر الصور الـ«سيلفي» في أرجاء الدنيا... ولكنها صورة «شيلفي» واحدة رأيناها في المكتبة البريطانية؛ في عاصمة واحدة هي لندن؛ في بلد واحد هو بريطانيا.
صورة «شيلفي» لك تضعها على حسابك، مغرداً، في يوم الكتاب، وفي غير يوم الكتاب، أفضل بالتأكيد من ألف صورة «سيلفي».