سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

عندما يزوّر الفن

أن يكتشف متحف فرنسي رسمي، بمحض الصدفة، أن أكثر من نصف مقتنياته مزورة، فهذا أمر ليس بمألوف في عالم الفن وبلدانه الكبرى. إنما بقليل من البحث، تستنتج أن الأمر شائع ويتم التكتم عليه، كي لا تخسر المتاحف ثقة روادها، الذين هم رأس مال مداخليها وسندها الأول.
متحف الفنان التشكيلي إيتيان تيرو المتوفى عام 1922 هو فخر بلدة ألين الكتالونية الفرنسية، ويضم 140 لوحة لابنها الأشهر، حيث تكاتف سكانها مع بلديتهم وجمعية معنية لدفع ثمنها من جيوبهم الخاصة. وحين يتبين أن 60 في المائة منها ليست سوى تقليد ممتاز، فهذه صدمة للوسط الفني بأكمله، خاصة أن الأعمال اشتريت مزودة بوثائق تثبت صحتها. وتيرو ليس بطبيعة الحال، بيكاسو ولا مايكل أنغلو، ولم تطبق شهرته الآفاق لكنه كان موهوباً وصديقاً لهنري ماتيس ويوضع فنياً في مصاف صديقه الآخر النحات الكبير أريستيد مايول، ودفع ثمن إيثاره البقاء في بلدته شهرة أقل، وحباً أكبر من الـ800 نسمة التي تسكن «ألين» وقررت أن ترعى بكل ما لديها من قدرة مالية إرثه الفني، لتستفيق على خديعة يصعب ابتلاعها. حتى «الجوكوندا» درة اللوفر التي تحمى بزجاج واق من الرصاص ويحرسها رجلان، يمنعان الجماهير الغفيرة الآتية من قارات الدنيا لتلقي نظرة عليها من الاقتراب، محتمل أن تكون قد استبدل بها أخرى، ما دامت تغيب عن الأنظار تكراراً.
وكي لا يبدو أننا نتجنى. فإن مؤسسة سويسرية معنية بالفن شككت منذ سنوات في أن تكون تلك التي تمتلكها فرنسا هي التي رسمها دافنشي معتمدة على أدلة فيزيائية، وعارضة لوحة أخرى تشبهها مدعية أنها الأصل.
ومن طريف ردود الفعل الفرنسية على صدمة متحف إيتيان تيرو، اعتبار البعض من عشاق الفن الذين لا ناقة لهم ولا جمل بالأسواق وانتهازيتها، أنه ما دام وصل التقليد إلى حد خداع أشهر المتخصصين، فلنستمتع بما لدينا، ولنعترف بمهارة من وصلتنا أعمالهم. وقد يبدو ما نقوله مبالغة للبعض، لكن الواقع يقول إن المزورين بلغوا بحرفيتهم دراسة المواد الأولية التي كان يستخدمها الفنانون وتعتيقها بما يجعلها صالحة للبيع حتى في مزادات الشركات الفنية العالمية، التي قد تُخدع أو تتظاهر بذلك وتتمكن من تسويق أعمال من المفترض أنها فريدة وبمبالغ باهظة.
السوق الفنية التي يضخ فيها مليارات الدولارات، بما شهدته من فورة منذ نهاية القرن العشرين، وما يشوبها من فوضى يتحكم فيها مجموعة من المتنفذين، وتستفيد منها قلة من الفنانين، تستطيع أن تعلي من شأن فنان أو تيار تشكيلي وتطمس آخر. وهذا تزوير أيضاً. وللكذب أشكال وفنون، كما للتحايل مدارس ومشارب، تقع الإبداعات ضحيتها، وعشاق الجمال يعلقون كما الفئران الصغيرة في مصائدها.
والفن العربي ليس بعيداً عما يحدث في تلك البلدة الفرنسية ومتحف فنانها الأثير تيرو. ففي لبنان ومصر وسوريا ودول عربية أخرى من التزييف ما يجعل التشكيك عند الشراء فرضاً على كل مقتن. وسبق أن كتبت تحقيقاً يكشف عن حالة واحدة في لبنان فقامت الدنيا ولم تقعد، ومع ذلك لم يتحرك أحد. فالصمت متأت إما من خوف أو من استنفاع مشترك مع المزور، وفي الحالتين الجريمة ترتكب بصمت. وأستعير من الناقد المحترف العراقي فاروق يوسف الذي له مؤلف مهم في هذا المجال عنوانه «الفن في متاهة» عبارة صغيرة تدلل على عظم ما يدور في الخفاء وفي أروقة بعض الغاليريات، إذ يقول: «أعرف رسّامين لم يتوقفوا عن الرسم حتى بعد موتهم. لا أمزح، بل أحاول أن أصل إلى الحقيقة مباشرة، اللبناني بول غيراغوسيان، السوري فاتح المدرس، العراقي إسماعيل فتاح وآخرين ممن تركوا أثراً لافتاً في التاريخ الفني وفي حركة السوق الفنية معاً». ويوسف يعتقد أن التزوير العربي يتجاوز اللوحة ليبلغ التأريخ والتحليل والدسّ الذي يسيء إلى تاريخ الفن العربي كله، وهذا موضوع آخر، خطير جداً، لا بد من عودة إليه.
وأعرف من ناحيتي من يصبّ نسخاً لمنحوتات عن الأصلية ويبيعها باسم المتوفى ومن يستنسخ لوحات ويوقعها عن الفنان الراحل، ومن يستعير نحاتاً مغموراً ليبتكر شبيهاً، ومن روح ما كان يرسمه والده، وهذا يمارسه ويعلم به الضالعون في المجال الفني ويتناقلون أخباره، ولا يجرؤ أن يكتب عنه كثيرون.
هذا، ولا نزال في ميدان التشكيل بينما فتحت الحروب المتناسلة باباً آخر للغش لم يغلق يوماً لكنه تحول إلى سوق قائمة بذاتها في سوريا وقبلها العراق، هي تزوير آثار المناطق المنكوبة بالاقتتال وبيعها، ثم صعوبة تمييزها في حال تمكن البلد الأصلي من استردادها.
أحياناً يبدو الصمت عن التزوير أيسر من الاعتراف به والخضوع لنتائجه المكلفة. فقد رفض متحف «غاند» البلجيكي المعروف إغلاق معرض من 26 لوحة للفنانين الروسيين الكبيرين كاندنسكي ومالفيتش بداية هذا العام، رغم أن عاصفة من النقد اندلعت بمجرد نشر صور اللوحات على الإنترنت. وجاء الصوت الأعلى من روسيا، حيث أكد خبراء متابعون هناك أن اللوحات مجهولة لديهم بالكامل، ومن المحال أن تكون قد جمعت وحفظت بهذه السرية، دون أي علم لهم بوجودها. ومن الطريف أن تكون حجة المتحف للاستمرار في استقبال زوار للأعمال المشكوك جداً في صدقيتها، أن «شروط العرض تختلف عن الاقتناء، ولا تحتاج المعروضات المؤقتة إلى وثائق تثبت صدقيتها، لا بل يتوجب على المحتجين في هذه الحالة، أن يأتوا بإثباتات تؤكد أنها مزورة».
20 في المائة مما تحتشد الجماهير، وتقف في طوابير انتظار من أجل رؤيته في «اللوفر» أو «المتحف البريطاني» أو «الميتروبوليتان»، بحسب خبراء محنكين، لا شيء يمنع من أن يكون مزوراً بالفعل، ومع ذلك لا تنبيه ولا إشارة، وهذا في حد ذاته فضيحة.