عبير مشخص
صحافية وكاتبة سعودية في مجال الفنون والثقافة
TT

«أم الرخا والشدة»

"جدة.. أم الرخا والشدة"! كانت الجملة المفضلة لدى والدي، الذي عاش طفولته وشبابه في أحد أحيائها القديمة، وتابع دراسته في مدرسة الفلاح، أول مدرسة للأولاد فيها، التي تقع في منطقة وسط البلد. صورة جدة قديما تشكلت في ذهني من حكاياته ورواياته، ما زالت صور حارة العلوي وحارة الشام وحارة اليمن وحارة المظلوم والمباني ذات النوافذ الخشبية الجميلة (الرواشين) هي أول ما يتبادر لذهني عند ذكر اسم عروس البحر الأحمر. منطقة البلد وشوارعها الضيقة المزدحمة أطرافها ببسطات البائعين الذين يبيعون العطور والمجوهرات الذهبية الرخيصة إلى جانب أنواع اللبان والبخور، كل تلك الأشياء كونت الصورة الخيالية لجدة في ذهني. وسط البلد لم يفقد بريقه أبدا، كان النزهة المفضلة لدى الكثيرين من أهل عروس البحر في رمضان، ومكانا للتسوق في باقي الأوقات. ورغم ذلك عانت المباني الجميلة ونوافذها المشغولة مثل "الدانتيل" لسنوات وسنوات من آثار الزمن والإهمال، فالبيوت القديمة هجرها أصحابها واحترق عدد كبير منها وانتشرت المباني العشوائية. وكان من أمنيات أهاليها أن يعود بريق العروس لها ليعودوا هم لها. عندما أقيم مهرجان "كنا كدة" في بداية العام وتجملت المنطقة التاريخية كما لم تتجمل من زمن، امتلأت الطرقات الصغيرة بالزوار، ودبت الحياة في البلد بسياح هم أهلها يرونها بعين جديدة ويستمتعون بها وبذكرياتهم وذكريات آبائهم. المهرجان كان حديث الكل سواء في المجالس أو على مواقع التواصل الاجتماعي، وأثبت للكل أن هناك من يهتم بالتراث والأصالة وعطر الآباء والأجداد.
والآن بعد أن نجحت جهود القائمين على السياحة والآثار وانضمت جدة التاريخية لقائمة "اليونسكو للتراث العالمي"، اكتمل عقد من اللآلئ تفخر بها السعودية بعد انضمام الدرعية ومدائن صالح للقائمة.
يبقى أن يحافظ أهل عروس البحر على ما تبقى من آثار المنطقة، وأن يحرصوا عليها كما يحرصون على الشوارع الأنيقة والمباني الزجاجية في الأحياء الحديثة. بل يجب أن يكون الاهتمام أكبر؛ فالمباني الحديثة يمكن بناء غيرها أما مبنى عريق في وسط البلد فلن يعود للحياة بعد أن تمسه يد التدمير أو الإهمال كما حدث كثيرا.