فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

العلمانية... حماية المقدّس من المدنّس

لم يترك مفهوم العلمانية للباحثين مجالاً لتجاوز أنواره وأعطاله. حتى بعد التجارب الأممية الكثيرة له لإدارة الواقع ولحسم هوية الدولة، بقي المفهوم مثيراً للإشكاليات والنقد. حتى الآن، تصدر كتب رصينة لفلاسفة ومفكرين تتعلق بهذا المفهوم، وعلاقاته وارتباكات فهمه، وتجدد ألوان تطبيقه وانتهاجه. ومن أثمن ما قرأت أطروحة طلال أسد، بعنوان «تشكيلات العلمانية»، التي فجّرت أسئلة كبرى بمجال العلاقة بين الدولة والدين والقومية والمجتمع، وهذا سبب تحوّل أطروحة أسد إلى ميدان للمساءلات والمداخلات والتعليق.
أضرب مثلاً بأطروحتين؛ إحداهما للأستاذ بجامعة كولومبيا، بعنوان «الدولة المستحيلة»، وفيها أجرى مداخلات ثرية مع طلال أسد، وقد كتبتُ في هذه الجريدة حولها، وحلاق متخصص بالفقه الإسلامي وتطوره، ولديه في ذلك عدد من الكتب المطبوعة، والأخرى التي يعمل عليها وستصدر قريباً. والكتاب الآخر بعنوان: «إشكالية الفصل بين الدين والسياسة»، لإيفان سترينسكي، وهو أستاذ بجامعة كاليفورنيا، وفيه يواجه ما سماها الخرافات حول العلاقة بين الدين والسياسة من جهة، ويعارض ربط الدين بالحرب، ويساجل من سماهم «الملاحدة الثرثارين» ووجهات نظرهم حول الدين.
يناقش سترينسكي طلال أسد وآخرين، منطلقاً من التحقيق بستة قوالب شائعة. في أحد القوالب، ينتقد أسد قائلاً: «القالب السادس يقول إن الدين في جوهره مستقل عن السلطة السياسية، حيث إنهما من الأمور العامة المتجسدة الخارجية بطبيعتهما. ويذهب طلال أسد إلى القول بأن الفصل بين الدين والسياسة عادة غربيةٌ حديثة، فالدين مسألة تتعلق بشيء يدعى الروح، فهو عين البعد الروحي للحياة على كل حال، ومن ثم فإن الدين بطبيعة الحال لا صلة له بالسلطة». وإيفان انطلق في المقدمة من أحداث إيران عام 2009، وأراد إزاحة الستار عن الإشكاليات والفروقات بين استقبال الأديان للعلمانية، ويشن بالكتاب النفيس هجوماً على الإطلاقات العمومية حول الدين منذ لوثر حتى هيتشنز.
وعليه، فإن النظرة المتجددة لمفهوم العلمانية أخذت صيغاً مرتاحة تجاه النماذج الدينية، على عكس المواقف الأولى الساخنة بحرارة الدم، وعلاقة الكنيسة بالقتل والعنف والظلم؛ لقد ساهم التقادم عبر القرون في التفريق بين علاقة السلطة بالدين وعلاقات المؤمنين بالسلطة، مما جعل المؤسسة الدينية موضع احترامٍ عميق، ولكن من دون أن تعيد تجربة التدخل بالسلطة، إذ تتحول حينها إلى كيانٍ غاشم يتجاوز «الروحية الدينية».
في ذلك السياق، قرأتُ أطروحة مهمة لويليام ت. كافانو، أستاذ اللاهوت في جامعة «دي بول» الأميركية، عنونها بـ«أسطورة العنف الديني - الآيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث»، وهدف الكتاب مناقشة علاقة العنف بالدين، وعلاقته بالسلطة والمجتمع، منتقداً «الآيديولوجيا العلمانية»، وأحكامها العمومية حول الدين. في الفصل الثاني، مثلاً، يشير إلى أن «مصطلح الدين المدني قُدّم مع روسو في القرن الثامن عشر، في الفصل الأخير من كتابه (العقد الاجتماعي). ويقترح روسو صراحةً ما سماه (الدين المدني) كحلٍ للتأثيرات الانقسامية للمسيحية، التي قسمت ولاءات الناس بين الكنيسة والدولة؛ لم يكن روسو يريد الإطاحة بالمسيحية ومحوها تماماً، وإنما جعلها ديناً للبشر يتعلق بالعبادة الجوانية للإله القدير، وبالالتزام الداخلي بالأخلاق، ولا شيء آخر».
مهمة كافانو تدمير الأسطورة المتداولة حول العنف الديني، خصوصاً إذا كان المنطلق من تمييز بين الأديان والثقافات والحضارات، وتالياً لإحراج المقولات التقليدية التي تتحدث عن أعطالٍ خاصة بأتباع هذا الدين أو ذاك، ويضيف: «إن التخلي عن أسطورة العنف الديني سيساعدنا في رؤية الطبيعة المؤقتة للعلمانية الغربية، باعتبارها مجموعة من الترتيبات الاجتماعية المحلية، لا باعتبارها حلاً كونياً لمشكلة الدين الكونية. إن الخيارات المتاحة لأي مجتمع، بما في ذلك مجتمعاتنا، لا تنحصر بالاختيار بين الثيوقراطية والعلمانية الحربية».
أمثلة كثيرة تتحدث عن العلمانية بألوانٍ مختلفة، تنزعها من التفسير الأحادي المدرسي، وتشجع المسلمين على إزالة القلق من ذلك المفهوم، ذلك أن استقبال المسلمين له ارتبط بأولياته التفسيرية المضارعة للحروب الأهلية وما تلاها، كما أن وهم وجود عداء بين العلمانية والدين نشأ من الضعف النقدي الإسلامي لطبيعة مفهوم الدولة في الإسلام من جهة، وتوسيع حركة الدور الفقهي ليصل إلى ما ليس من اختصاصه من جهةٍ أخرى؛ ولا يتسع المجال لذكر آراء أخرى لمفكرين مثل موران في عموم أطروحاته وحواراته، وكذلك لدى أوليفيه روا في كتابه المهم «الإسلام والعلمانية»، الذي ينفي فيه أن تكون «العقيدة الإسلامية عقبة أمام العلمانية»، وكذلك الباحث والي نصر في كتابه «صعود قوى الثورة»، الذي خصص فيه فصلاً عن عثرات العلمانية.
لذلك، من المهم تجاوز التفسير الواحد حول العلمانية، وذلك من أجل طمأنة المسلمين بأننا نتناول مفهوماً قابلاً للتمدد والتطوير والتفسير، فهو يتكيف مع أي مجتمع يحسم أمر هوية دولته لتكون علمانيةً تحترم الدين، وتحصّنه من دنس السياسة وأوضارها. إن الانتقادات الآنف ذكرها جاءت من مفكرين يؤمنون بدور العلمانية في تنقية الواقع، ولكنهم في الوقت نفسه يساهمون في تشريح المفهوم للانتقال به وبعلاقاته من التفاسير التقليدية، فالمفهوم الغني العميق يظل أبداً ينتج إشكالات نقدية لا تنتهي، وإلا فإن محمد أركون حين ينتقد «العلمانية المتطرفة» لا يعني أنه يخرج عن التصور الضروري لعلمنة الدولة، وإنما يقوم بانتقادٍ للمفهوم بغية إغنائه أولاً، وتنوير مستقبليه بأن الصيغ المستخدمة لإدارة الواقع، ومنها العلمانية، يجب أن تنتقد دائماً، وهذا لا يعني وجود بديلٍ لها، مهما اختلفت التسميات، ما بين «المدنية، والحضارية، والتنموية»، ولكن كل الطرق تؤدي إلى تحييد ضروري بين السلطة والدين، حفاظاً على المقدّس من وضر المدنّس.