سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

السعادة كتاب... والإنسان أول صفحة فيه!

روى الشيخ محمد بن راشد، حاكم دبي، أنه كان مع أصدقاء في الصحراء ذات يوم، فأشار لهم إلى الأفق الممتد أمامهم بلا حدود، وسألهم: ماذا يرى كل واحد منكم أمامه على مد البصر؟! بدا سؤاله غريباً، بقدر ما بدا استفساراً عن شيء بديهي لا يستحق سؤالاً من جانبه، ومع ذلك، فإنهم أجابوا في صوت واحد: هي صحراء لا ماء فيها، ولا أثر لحياة!
كان من ناحيته يتوقع الجواب، فتوجه بالحديث إليهم بما معناه، أنه يرى ما رأوه هُم بمنظار آخر تماماً... يراه كشاعر، مرة، ثم يراه كقائد، مرة ثانية... أما عين الشاعر عنده فتتطلع إلى الصحراء على أنها مصدر إلهام، يمكن أن يُلهمه بما يحب من قصائد الشعر ومن أبياته... وأما عين القائد فترى في الصحراء المجردة ثروة في انتظار مَنْ يوظفها لصالح الناس!
هذه قصة رواها الشيخ في كتابه الجديد «تأملات في السعادة والإيجابية». وقد كان الكتاب مُتاحاً أمام عدد من ضيوف منتدى الإعلام العربي، الذي انعقدت دورته رقم 17 في دبي، بداية أبريل (نيسان) الماضي. وحين حصلتُ على نسختي، فإنني ظللت على مدى شهر انقضى، بين وقت وآخر، أعود إلى فصوله الأربعة والعشرين، متنقلاً بين تعريف للسعادة، وبين آخر للإيجابية... وكان تعريف الأخيرة هو ذاته الذي كشف عنه جواب أصدقاء الصحراء، إذا ما قارنت بينه وبين جواب صاحب السؤال!
فالإيجابية هي أن ترى في الشيء، أي شيء، وجهه الآخر الذي لا يراه عابرو السبيل، ولا الناظرون إلى الشكل دون المضمون، أو المظهر مجرداً من الجوهر، أو السطح البادي للعين دون الأعماق التي تتخفى بطبيعتها وراء كل سطح يتجلى أمام الناظرين!
وفي الأيام التي جرى فيها استحداث وزارة للسعادة في دولة الإمارات، استغرب حاكم دبي أن يسمع من صحافي عربي، معلقاً على خطوة استحداث الوزارة الجديدة، أنه، وقد كان هو وراء الخطوة باعتباره رئيساً لمجلس الوزراء، ونائباً لرئيس الدولة، يغرد خارج السرب العربي!... لكن وهو يشرح للصحافي العربي، كان تقديره أنه يريد بالوزارة الجديدة، وبالمهمة المُعلقة على كاهلها، أن يكون جزءاً من السرب نفسه، لا أن يكون بعيداً عنه، فضلاً بالطبع عن أن يكون خارجه، أو منفصلاً عنه، أو ذاهباً في اتجاه آخر!
وكان المعنى أن السعي إلى بث السعادة لدى المواطن، أي مواطن عربي وليس المواطن الإماراتي وحده، إنما هو مسؤولية كل حكومة عربية في عاصمتها، وأن ذلك له سببان اثنان؛ أولهما أن دراسات متخصصة قد جرت، وأنها قد أشارت إلى أن السعداء يعملون أكثر ويعيشون أطول!
وليست هناك حكومة في كل عاصمة عربية، إلا ويسعدها على سبيل التأكيد أن يعمل مواطنوها بمعدل أعلى، وأن يعيشوا لفترات طويلة. إن عمل كل مواطن فيهم في حالة كهذه، سوف يكون مرتبطاً بإنتاج بالضرورة، وكل حياة لسنوات مُضافة ستكون في حالة كهذه كذلك، إضافة إلى اقتصاد البلد، وكيانه، وجسده، وهيكله العام، ولن تكون عبئاً، شأن المواطن الذي لا يعمل، ولا يعرف معنى للسعادة، ولا يرى لها أثراً في حياته، ولا ظلاً في بيته، ولا طعماً في فمه!
وكان السبب الثاني قد تكفل ببيانه تقرير السعادة العالمي لعام 2015، الذي ضم دراسة قسمت العالم إلى أقاليم جغرافية، وسألت الشباب والمراهقين، في كل إقليم، عن رأيه في أعلى المناطق تشاؤماً واكتئاباً في أنحاء الأرض، وكانت المفاجأة، أو لعلها ليست مفاجأة في الحقيقة، أن منطقتنا العربية هي صاحبة نصيب الأسد في نظر الشباب الذي تلقى سؤال الدراسة، من حيث معدل التشاؤم فيها، ومن حيث منسوب الاكتئاب!
وكانت مؤشرات مثل هذه الدراسة، في تقرير بهذا المسمى يخرج كل عام، كافية للدلالة على أنه إذا كانت في العالم منطقة أحوج من غيرها من المناطق إلى إشاعة معاني السعادة بين مواطنيها، فهي هذه المنطقة التي نعيش فيها!... فليس منها ركن، إلا ويمتلئ بعوامل التوتر، وليس في امتدادها مكان، إلا ويضطرب بما يحاصر المواطن من كل اتجاه، وليس فيها موضع إلا والعربي فيه يستشعر الغربة في بلاد غريبة! إلا أقل القليل في هذا الاتجاه مرة... وفي اتجاه آخر مرات!
وليس مطلوباً من كل حكومة عربية في مقاعد الحكم، إلا أن تتعامل مع السعادة المتناثرة في مواقع متفرقة في المنطقة، على أنها كالعدوى التي لا بد أن تنتقل من أرضها إلى كل أرض مجاورة، والتي لا سبيل إلى إقامة الحواجز أمامها، ولا بديل عن فتح الطريق أمامها، وتهيئة الأجواء الحاضنة لها، والمُرحبة بها، والواصلة بصداها إلى وجدان رعاياها!
وسوف تعرف المنطقة سعادتها، إذا استعارت معنى الإيجابية من الكتاب، في النظر إلى البشر فيها، لأن التطلع إلى كل إنسان جديد على أرضها، على أنه صاحب فم، وفقط، أو أنه مستهلك، وحسب، إنما يؤسس لنظرة ليست من الإيجابية في شيء... فالإنسان نفسه يملك في مقابل الفم الذي يأكل ويستهلك، يدين تعملان وتنتجان، أو أنهما قادرتان على العمل، وعلى الإنتاج... ويملك في مقابل بطنه، عقلاً يستطيع أن يفكر، وأن يتخيل، وأن يذهب مع الابتكار إلى آماد بعيدة!
وليست قصة الصحراء التي جاءت في أول هذه السطور، إلا رمزاً إلى الإنسان الذي تراه حكومات في المنطقة عبئاً تنوء به، وباحتياجاته، وتراه حكومات أخرى رصيداً في حسابها تسحب منه على الدوام، دون أن ينفد، ودون أن يتوقف تدفق المدد فيه!
الرهان في المنطقة يجب أن يكون على الإنسان... ولكن ليس أي إنسان... إنه الإنسان الذي تستثمر حكومته فيه بلا حدود، وتعرف مسبقاً أن الرهان عليه، مرهون بالنظر إليه بإيجابية ترى العقل في جسده، قبل البطن، وترى اليدين، قبل الفم، وترى القدرة قبل الحاجة، وترى الطاقة قبل العجز، وترى الخيال في رأسه، قبل الخمول في بدنه، وترى النشاط في حركته، قبل القعود في بيته، وترى فيه المربع الأول بين مربعات صناعة المستقبل، في مواجهة كل حلقة من حلقات الانجذاب إلى الماضي!
إذا كانت السعادة كتاباً، فالإنسان هو أول صفحة فيه بعد الغلاف!