عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

هل يحل ابن مهاجر مسلم قضية الهجرة في بريطانيا؟

قدمت وزيرة الداخلية البريطانية آمبر راد استقالتها يوم الأحد الماضي لأنها ضللت البرلمان من «دون قصد» عندما نفت وجود سياسة حكومية تستهدف تحقيق أرقام معينة في ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وهو كلام ثبت لاحقاً أنه غير صحيح بعد أن كشف عن رسالة تناقض كلامها وتؤكد وجود هذه السياسة. راد ليست الوحيدة التي تضطر للاستقالة بسبب «تضليل» البرلمان عن عمد أو عن غير قصد، فقد سبقها إلى ذلك آخرون خلال العقود الماضية؛ فخلال العام الماضي وحده خسرت حكومة تيريزا ماي اثنين من وزرائها بسبب «تضليل» البرلمان، هما وزيرة التنمية الدولية بريتي باتيل التي قدمت معلومات غير صحيحة بشأن لقاءات غير معلنة وغير مصدق عليها عقدتها خلال عطلة في إسرائيل مع مسؤولين إسرائيليين بينهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، أما الوزير الثاني فهو داميان غرين نائب ماي الذي استقال لتقديمه بيانات مضللة أمام البرلمان نفى فيها علمه بمواد إباحية عثر عليها في جهاز الكومبيوتر بمكتبه.
لكن على الرغم من هذه الاستقالات «القسرية» مضموناً، والطوعية شكلاً، خلال فترة وجيزة من حكومة تيريزا ماي التي تحاصرها الأزمات والصراعات، فإن استقالة وزراء أو نواب برلمانيين بسبب الكذب أو تضليل البرلمان تبقى مسألة قليلة الحدوث نسبياً، على الرغم من أن قواعد البرلمان البريطاني وتقاليده تعتبر تقديم معلومات كاذبة أو مضللة «جرماً» يستوجب عقوبة. فالسياسيون كما يقال في بريطانيا على سبيل السخرية السياسية اللاذعة، ليسوا مضطرين للكذب، لأنهم كثيراً ما يلجأون «للاقتصاد في الحقيقة».
الوزيرة آمبر راد كانت في الواقع ضحية تنفيذ سياسة صارمة للحد من أعداد المهاجرين وضعتها رئيسة الوزراء تيريزا ماي عندما كانت وزيرة للداخلية وقررت بمقتضاها تخفيض نسبة الهجرة. في إطار هذا التوجه انتهجت ماي منذ عام 2012، عندما كانت على رأس وزارة الداخلية، سياسة «خلق أجواء عدائية» للتضييق على المهاجرين وإجبار غير الشرعيين منهم على الرحيل. وتسبب ذلك أحياناً بمنع دخول مهاجرين جدد منهم أطباء لملء شواغر في قطاع الصحة الذي يعاني من نقص في الكوادر المؤهلة، كما تضرر السياح الذين يحتاجون إلى تأشيرات لدخول بريطانيا بعد تشديد إجراءات التأشيرة وقيودها.
هذه السياسة ظلت مطبقة منذ سنوات لكنها أثارت ضجة واسعة في الأسابيع الأخيرة بعدما سلطت الأضواء على أزمة المقيمين خصوصاً من ذوي الأصول الكاريبية الذين باتوا يواجهون احتمالات الطرد من بريطانيا على الرغم من أنهم جاءوا إلى هنا بتشجيع من الحكومات التي كانت تحتاج إلى أياد عاملة بعد الحرب العالمية الثانية، واستقدمت لذلك مئات الآلاف من المستعمرات السابقة. غالبية أولئك المهاجرين تجنسوا في بريطانيا ويعيشون بلا مشاكل قانونية حول وضعيتهم، لكن حوالي 57 ألف شخص لم يسعوا لتوثيق وجودهم لأنهم لم يحتاجوا للحصول على الجنسية وجوازات السفر. هؤلاء وجدوا أنفسهم فجأة مطالبين بإثبات «شرعية إقامتهم» وإلا واجهوا إجراءات الترحيل من بريطانيا، وبعضهم جرى ترحيله بالفعل أو اضطر للمغادرة تحت الضغوط التي قلبت حياتهم رأساً على عقب، لأنهم فقدوا وظائفهم، وحق العلاج المجاني، وأغلقت حساباتهم المصرفية. فقانون الهجرة الصادر عام 2014 إبان فترة تولي تيريزا ماي وزارة الداخلية يلزم المصارف ومؤسسات الخدمات الصحية وأصحاب العمل وملاك العقارات بالتوثق من إقامة أي شخص قبل تقديم خدمات لهم.
عبء تنفيذ هذه السياسات وقع على آمبر راد بعدما خلفت تيريزا ماي في وزارة الداخلية، وأصبحت ضحية لها عندما «ضللت عن غير عمد» لجنة الشؤون الداخلية في البرلمان التي كانت تدلي بشهادة أمامها حول ضجة المقيمين الذين يواجهون الترحيل خصوصاً أولئك القادمين من جزر الكاريبي. العبء ينتقل الآن إلى الوزير الذي عينته تيريزا ماي خلفاً لآمبر راد، وهو ساجد جاويد الذي كان وزيراً للمحليات في الحكومة، وأثارت ترقيته لتولي الداخلية اهتماماً واسعاً لأنه أول مسلم يتقلد هذا المنصب، وهو ابن مهاجر باكستاني من جذور هندية جاء إلى بريطانيا في ستينات القرن الماضي وبالتالي ينتمي إلى جيل المهاجرين الذين تدور الضجة حول مصير بعضهم. لهذا سارع جاويد إلى القول بعد تعيينه إنه يتفهم قضية هؤلاء المهاجرين ومحنتهم وسيعمل على معالجتها بما تستحقه من عناية. المشكلة في هذا الكلام أن جاويد صوّت في السابق لصالح الإجراءات والقوانين التي فرضتها تيريزا ماي في موضوع الهجرة، فهل أصبح متفهماً الآن فقط لهذه القضية ولم يكن متفهماً لها في السابق وهو ابن مهاجر من ذلك الجيل؟
تيريزا ماي التي أثبتت قدرة في المناورة السياسية ربما رأت في تعيين جاويد فرصة لإسكات المنتقدين وتهدئة الضجة حول القضية التي حاصرتها أخيراً. من هذا المنطلق قد يكون التعيين محاولة تجميلية لصورة الحكومة ولا يعني تغييراً حقيقياً في السياسات ونهج تيريزا ماي المتشدد في موضوع الهجرة. الفترة المقبلة ستكون امتحاناً حقيقياً لجاويد في منصبه الجديد وفي معالجته لموضوع الهجرة الساخن والمعقد.