إميل أمين
كاتب مصري
TT

المملكة والحوار... طريق الحرير الإنساني

لعل أشهر الطرق التي عرفتها البشرية في تاريخها عبر العصور كان ولا يزال طريق الحرير التجاري الذي رسمت الصين قديماً خطوطه وبلورت خيوطه، وها هي تعاود الكرّة من جديد هذه الأيام.
غير أن الناظر بعين ثاقبة وموضوعية لرؤية المملكة 2030 كما يراها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، يجزم أن المملكة وعبر أدواتها الناعمة ترسم خريطة جديدة لطريق حرير آخر بين البشر، طريق يفتح الأبواب واسعة للحوار والجوار، وللتلاقي الخلاق بين شعوب الأرض من مختلف الجنسيات والأعراق، والأديان والثقافات، ما يعيد للمملكة العربية السعودية سيرتها الحضارية الأولى.
قبل بضعة أيام كانت العاصمة المصرية القاهرة تشهد افتتاح اللقاء التدريبي الأول لبرنامج زمالة مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين اتباع الأديان والثقافات (كايسيد) الذي يتخذ من فيينا مقراً له.
المركز هو إحدى الرؤى التنويرية التصالحية التي قدمتها المملكة في السنوات الأخيرة لمواجهة طغيان الإرهاب والتطرف والكراهية الناجم عن الجهل بالآخر، وقطع جسور التواصل مع المغاير فكراً أو ديناً، نفساً أو رسماً.
عبر أربع سنوات قامت «كايسيد» على الكثير من البرامج التدريبية التي تعمق حالة الحوار في الوطن العربي من جهة، وفي بقاع أخرى حول العالم تحتدم فيها المواجهات التي تصل إلى حد حرق المختلفين عقائدياً، كما يجري الحال في بعض دول أفريقيا.
برنامج الزمالة الذي رعته «كايسيد» في القاهرة وكما صرح السيد فهد أبو النصر مدير عام المركز يتصل لا بالأفراد العاديين، وإنما بالقائمين على التدريس في المراكز والمعاهد والمؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية في العالم العربي، وقد انطلق البرنامج في فبراير (شباط) من العام الحالي في فيينا انطلاقاً من قناعة حقيقية لإثراء التنوع في عالمنا العربي والذي مرّ ويمر بأحداث مؤلمة منذ عقدين تقريباً أدّت إلى تهديد حقيقي لنسيجه الاجتماعي المتنوع، كونها خطراً حقيقياً على العيش المشترك والتماسك بين المكونات الدينية والعرقية في المنطقة.
أما الهدف - والحديث للسيد أبو النصر - فهو تعظيم دور القيادات والمؤسسات الدينية المتنوعة والفاعلين في الحوار بين اتباع الأديان والثقافات من أجل تعزيز التماسك الاجتماعي والحياة الواحدة، وترسيخ ثقافة المواطنة الحاضنة للتعددية واحترام التنوع.
تحمل المملكة اليوم وفي ظل توجهات الأمير محمد بن سلمان، راية لطريق الحرير الإنساني الجديد، إذ لم يعد السؤال المطروح على موائد نقاش الإنتلجنسيا العربية بنوع خاص حول أهمية الحوار وما إذا كان نافعاً ومفيداً؟ بل أضحت القناعة بأنه ممكن وواجب، بل حتمي وضروري، وإلا فلتسلم الراية إلى أصحاب دعوات الصراع حضارياً كان نوعه، أو دينياً، ثقافياً أو اجتماعياً، الأمر الذي سيولد عما قريب وقد ولد بالفعل في بعض أرجاء العالم عودة للقوميات والأصوليات القريبة من الأنظمة المكروهة تاريخياً كالنازية والفاشية.
حين تحدث الأمير محمد بن سلمان قبل بضعة أشهر عن انفتاح المملكة على العالم من جديد، فإنه كان ولا شك يدرك تمام الإدراك أنه في ظل ما يحدث من تغيرات جارفة تقضي في طريقها على الأخضر واليابس، وصعود منسوب الغلو وزيادة معدلات التطرف والإقصاء في المجتمعات الدولية، فإنه لا يوجد بديل عن «طريق الحرير الإنساني»، أي الحوار، إلا المشروع الإقصائي للآخر المغاير، بما يحمله من نذر وخيمة على كل عناصر الوطن العربي.
يؤمن «كايسيد» إيماناً صادقاً ثابتاً لا يتزعزع أن الحوار هو أحد مقاصد الشرع الكبرى في هذا الكون الذي استخلف فيه الخالق سبحانه الإنسان بهدف التعارف والتعاضد لخير البشرية، شريطة أن يقوم في جو من الاحترام المتبادل، والمعاملة بالتي هي أحسن، وبعيداً عن نوازع التجريح أو منطلقات التشريح والتشكيك.
الذين قُدّر لهم متابعة برنامج «كايسيد» الأخير أدركوا أن هناك أملاً ممزوجاً بعمل في قيادات عربية شابة تغير الأوضاع وتبدل الطباع الراكدة منذ زمان وزمانين، فقد كانت اللقاءات من العمق بشكل غير مسبوق، طرحت عنها كل أجواء الخوف من الاقتراب مما كان البعض يعتبره محظورات فكرية من قبلُ، ومن عينة ما انفتحت عليه أعين المتدربين من موضوعات جوهرية: دور الأديان في إشعال الحروب وبناء السلام، والصراع ما بين الهويات والتصورات التحزبية، عطفاً على قضايا المفاهيم والتصورات المسبقة أي الأشكال النمطية السائدة ذهنياً، وجميعها تأخذ بالعقول إلى مساحات رحبة من التواصل وهدم جدران الانغلاق وفك سلاسل وقيود الماضي، ليمضي طريق الحرير الإنساني صاعداً إلى أعلى عليين.
أحسن كثيراً القائمون على مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز حين جعلوا واحداً من أهدافهم الممكنة تسخير وسائط التواصل الاجتماعي لتكون معبراً بين أبناء الإنسانية، يمكّنهم من رفع الصوت الإنساني الواحد الذي يجمع ولا يفرق، يقرب ولا يباعد، وذلك عوضاً عن أن تكون تلك الآليات الحديثة أدوات جاذبة للمزيد من المتطرفين، وآليات لترتيب أوراق الإرهابيين وتالياً تنفيذ مخططاتهم الجهنمية.
طريق الحرير الإنساني الذي ترعاه المملكة في حاضرات أيامنا دعوة للتعارف والبحث عن المشترك الإيجابي والتسابق لعمران الأرض وإثراء الحياة الإنسانية، وتعزيز ثقافة السلام بين الأمم.