فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

حول الفلسفة وأدوارها النقدية

في القرن الثاني عشر، كان الصراع على أشدّه بين الفقهاء والفلاسفة، فبعد ازدهار الترجمات في العلوم والفلسفة والمنطق بات المشهد المعرفي يشهد تحوّلاتٍ كبرى، تغيّرت طرق النقاش والسجال، وتبدلت لغة تناول الحقائق، واغتنت سبل التأويل، وقد كان لزاماً على الفلاسفة الدفاع عن أنفسهم أمام سيلٍ من التهم، وكان لابن رشد دور بارز في خوض تلك الحرب، لم يتصدّ فقط للغزالي بل لكل النسخ الفقهية التي تجعل الفلسفة تؤسس للزندقة والمروق من الدين.
اتجه ابن رشد وغيره لاحقاً لنفي التضاد بين الحكمة والشريعة، فألف كتاباً طرّزه بمحاججات صاعقة أمام تهم الفقهاء، وهو المعروف بـ«فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال».
تضمن الكتاب محاولة توفيقية منطلقاً من مقولة: «إن الحق لا يضاد الحق»، فلكل من الدين والفلسفة وظائف لا يتداخل بها مع الآخر ولا يعترض عليها. وبحسب الجابري في تحليله لمنهجية ابن رشد في الكتاب: «فإن ابن رشد انطلق في تصوره المنهجي الجديد للعلاقة بين الدين والفلسفة من مبدأ أساسي سبق التأكيد عليه، وهو الفصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة فصلاً جذرياً أساسه أن لكل منهما طبيعته التي تختلف جوهرياً عن طبيعة الآخر، ومن هنا كان الفصل قضية منهجية أساسية، وهي تأكيد ابن رشد على خطأ استعمال قياس الغائب على الشاهد في معالجة العلاقة بين الدين والفلسفة، بل معالجة قضايا كل من الدين والفلسفة، وبالتالي التأكيد على الخطأ الناجم من محاولة دمج قضايا الدين في قضايا الفلسفة، أو العكس، لأن عملية الدمج هذه غير ممكنة في نظر ابن رشد إلا بالتضحية، إما بأصول الدين ومبادئه، وإما بأصول الفلسفة ومبادئها. إن ابن رشد يرى أن للدين مبادئ وأصولاً خاصة، وإن للفلسفة كذلك مبادئ وأصولاً خاصة، الشيء الذي ينتج عنه حتماً اختلاف البناء الديني عن البناء الفلسفي، ولذلك كان من غير المشروع في نظره دمج أجزاء من هذا البناء في البناء الآخر، أو قراءة أجزاء من هذا البناء بواسطة أجزاء من ذاك». (الجابري، نحن والتراث، ص238).
الردّة المنهجية تشكّلت تدريجياً، لكنها أخذت أوجهاً مع كتاب الغزالي العاطفي والساحر في آن: «المنقذ من الضلال»، الذي لقي رواجاً لدى الفقهاء، وبات حجة بين أيديهم لإمام دخل الفلسفة وخرج منها محطّماً، وكما في ثنايا الكتاب فإن الرحلة عصيبة، ولا يخفي الإمام لوعة على ضوء الحقيقة الذي خفت بفعل البحث في الفلسفة، والحقيقة أن الغزالي ساهم في الربط بين الفلسفة والضلال، ولكنه لم يكن وحيداً بل كان ضمن مسارٍ فقهي انتصر على الفلسفة، ولذلك سيأتي ابن خلدون في القرن الرابع عشر ليهاجم الفلسفة في «المقدمة».
المناوئون التراثيون للفلاسفة قالوا إن ابن سينا وابن باجه والكندي والفارابي وابن رشد مجرد مقلدين للفلسفة اليونانية، إلا أنهم لم يكونوا كذلك، بل ساهموا في رسم مناهج ونحت مفاهيم خاصة بهم لنقرأ مثلاً اهتمام فيلسوف بالقرن العشرين، وهو جيل دلوز، بابن سينا في دراسة مهمة للحسين الزاوي بعنوان: «دلوز وابن سينا».
إن سحب الموقف التاريخي تجاه الفلسفة ليكون حكماً على حاضرنا، واستخدام كل إرث ذلك الصراع واستثمار انتصار الفقه على الفلسفة لمنع تدريس أي منهاجٍ فلسفي في الثانويات أو الجامعات سيضعف من ملكة الأجيال، ويحطّم قدراتهم النقدية ويشلّ من فردانيتهم.
وتدريس الفلسفة ليست وظيفته تخريج فلاسفة وإنما تعزيز ملكة النقد، ومنح الطلاب أدوات ومعاول يواجهون بها وجودهم ودنياهم.
«لماذا نتفلسف؟» سؤال اختاره جان فرنسوا ليوتار عنواناً لكتابٍ ثري، وأصله محاضرات أربع ألقاها على طلبة المرحلة الإعدادية بالسوربون في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني) عام 1964، وفيه يعتبر: «إن الفلسفة تنشأ في الوقت الذي يفنى فيه شيء ما، وهذا الشيء هو القدرة على التوحيد، غير أن ما كانت توحده هذه القدرة إنما هو التناقضات التي بفعل تأثير هذه القدرة توجد علاقات فيما بينها وتفاعلاتٍ فعلية».
والفلسفة تعليماً هي ورشة تداول للحقائق، ومناخ مساءلة وفحص للقناعات الجاهزة، ودرس تدريبي على صوغ وصقل السؤال، وميدان رمي لسهامٍ من الأفكار اللامعة والمقاربات الخاصة النادرة،
إن تعليم الفلسفة لا يدمّر العقيدة، ولا يتحدى الدين، بل لولا المنطق ودراسة الفلسفة لما تطوّرت الكثير من مجالات الشريعة مثل أصول الفقه ومقاصد الشريعة وصيغ التأويل. ومن قبل قال هوسرل: «إن الفيلسوف يحمل في التعبير عن المعنى الخاص به تجربة صامتة».