سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

لحظة صدق مع النفس

أدعو الجماعات التي تحرض على العنف في منطقتنا العربية، أو تمارسه، ليس إلى أن تتدبر مبادئ دين الإسلام من جديد، ولا إلى أن تنتبه إلى مقاصد هذا الدين العليا... فهي بالقطع تعرف المبادئ التي أقصدها، وهي بالتأكيد تحفظ مقاصده العليا التي يستطيع كل مسلم، بل كل إنسان، أن يدركها بالفطرة، ولكني أدعوها إلى أن تتأمل الحال التي انتهت إليها جماعات مماثلة في العالم من حولنا... جماعات قضت عقوداً من الزمان تمارس العنف وتحرض عليه، ولكنها في لحظة من اللحظات أدركت عبث ما قضت أعمارها تفعله، فتوقفت عنه على الفور، ولم تجد أي حرج في أن تخرج لتعلن ذلك على الدنيا كلها.
فقبل أيام كانت حركة «إيتا» حديث العالم، ولا تزال، وعندما تحولت أخبارها إلى أحاديث مُتداولة بين الناس، عرفوا من جديد، أو لعلهم تذكروا، أنها حركة نشأت قبل 60 عاماً، وأنها كانت تريد على مدى هذه السنين الطويلة، أن تقيم دولة في إقليم الباسك الواقع في شمال إسبانيا، وفي جنوب غربي فرنسا، وأنها لم تكن ترى أمامها سوى هذا الهدف، رغم وضوح استحالته منذ البداية، وأنها قد مارست عنفاً كثيراً في سبيله، وأن ضحايا عنفها كانوا مئات من القتلى، وآلافاً من المصابين على جانبي الطريق.
وفي لحظة من لحظات الصدق مع النفس، قبل الصدق مع الآخرين، تبين لها عبث استمرارها في طريق العنف، وكان عندها القدر الكافي من الشجاعة الذي جعلها تخرج على المواطنين في البلدين، لتعلن في عام 2011 وقف إطلاق النار تماماً! ثم ذهبت إلى مدى أبعد فأرشدت العام الماضي، عن مخازن سلاحها في مناطق الحدود الفرنسية - الإسبانية. وقد كنا أول هذا الشهر على موعد معها أعلنت فيه حل نفسها... وفيما بعد حل نفسها سوف يكون في
إمكانها أن تتحول إلى العمل السياسي السلمي الطبيعي، وسوف يكون في مقدور عناصرها الذين لم يرتكبوا عنفاً، ولم يتورطوا فيه، أن يصبحوا مواطنين طبيعيين، يمارسون حياتهم كما يمارسها كل مواطن طبيعي، يعرف أن له حقوقاً في وطنه، وأن عليه في المقابل واجبات.
وكان درس «إيتا» في وضوح الشمس؛ فالعنف بعد تجربة طويلة معه، لا يفيد، والمطاردات بعد عشرات السنين منها لا تؤدي إلى شيء في صالح الناس، والملاحقات بعد تاريخ ممتد فيها، تصل إلى طريق مسدودة، وليس أفضل من أن يمارس الإنسان حياته في النور.
ولم تكن «إيتا» اختراعاً فريداً من نوعه، ولكنها فيما يبدو قد قررت أن تحذو حذو حركة «فارك» في كولومبيا، التي ظلت هي الأخرى تُروّع المواطنين في بلدها لعقود طالت من الزمان، حتى جاءت قبل شهور من الآن لتعلن إلقاء السلاح نهائياً، والكف كلياً عن ممارسة أي عنف، والتحول إلى حركة سياسية لها ما للحركات المشابهة في البلد، وعليها ما عليها!
وكان الرئيس الكولومبي صاحب جهد كبير في إقناع «فارك» بما وصلت إليه، وكان كلما أخفق جهده معها، عاد يحاول من جديد، ولم يكن ييأس، ولا كان الإحباط يصيبه رغم عثرات كبيرة في الطريق، فلقد كان يعرف أن المواطن الكولومبي قد أرهقه العنف، وقد أعياه، وقد أجهده، وأنّ الأوان قد آن ليستريح. وحقق الرئيس ما أراد، وحصل على «نوبل للسلام» عن جدارة وعن استحقاق.
وفي منتصف أبريل (نيسان) من هذا العام، جدد الرئيس الأفغاني أشرف غني دعوته إلى حركة طالبان، بأن تتخلى عن طريق العنف، وأن تتحول إلى حزب سياسي يخوض انتخابات البرلمان في 20 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. وكان الرئيس غني قد دعاها لأول مرة قبل ذلك بشهرين، فعاد يجدد العرض، ومع العرض إغراءات كثيرة؛ منها استخراج جوازات سفر لأعضاء الحركة، ومنها فتح مقر لقيادتها في العاصمة، ومنها رفع العقوبات المفروضة على قيادات فيها... ولم يكن يعرض ذلك كله عن ضعف، ولكن عن رغبة في أن يستريح الأفغاني، بعد طول معاناة مع طالبان، ومع ممارساتها، ومع أعمال عنف من جانبها لم تحصل من ورائها على أي شيء إيجابي.
وما كادت ساعات تمضي على تجديد الدعوة الرئاسية الأفغانية، حتى كانت عناصر من الحركة قد هاجمت مركزاً انتخابياً، وحتى كانت قد أصابت عدداً من المواطنين، وخطفت عدداً آخر، لا ذنب لأحد منهم في شيء، سوى وجوده بالصدفة في المركز، إذا كان الوجود من هذا النوع في هذا المكان ذنباً يُعاقب عليه المواطن.
ولو أنصفت طالبان لكانت قد سارعت تتلقف الدعوة، وتحذو حذو «فارك»، ومن ورائها «إيتا»، ولكانت قد رأت فيها طوق نجاة لها، ولكل حركة، أو جماعة غيرها، تؤمن بالعنف، وتمارسه، وتحرض عليه، وتمضي في طريقه، دون أن ترى عواقبه.
ولو أنصفت طالبان أيضاً، لكانت أول مَنْ يتجاوب مع دعوة غني، وأول مَنْ يبادر بالعودة من نفق لا يبدو له آخر، ولا تلوح له نهاية، بشهادة مكتوبة بالدم من «فارك» ومن «إيتا».
ولا تزال جماعات منطقتنا هي المعنية بهذا كله؛ فليس من المعقول أن تواصل السير في طريق، ثبت في كولومبيا مرة، وفي إسبانيا وفرنسا أخرى، أنه طريق يعادي الحياة التي خلقنا الله تعالى لنعيشها، لا لنقضي عليها، وأنه طريق يُفسد في الأرض التي استعمرنا خالقها فيها.
ولو أن أي فرد في أي جماعة تعتقد بالعنف، في منطقتنا، جرّب أن يتفحص تجربتي «فارك» و«إيتا»، معاً، وبصدق، لسقط سلاحه من يده على الفور، ربما عن غير إرادة منه عند الوهلة الأولى، ثم عن يقظة وإرادة واعية عند الوهلة الثانية، لأن الغالب أنه سيرى أشياء غابت عنه، ولأنه سيرى في درس مسيرة الحركتين؛ الكولومبية والإسبانية، رفعاً لعصابة عن عينيه أعمتهما لفترات، لم يكن يرى خلالها حقائق الأمور أمامه، على الصورة التي يتعين عليه أن يراها عليها... سوف يتبين له من وقائع وتفاصيل تجربتين باهظتي الثمن، أن معركته نفسها... هي نفسها خاضها آخرون لسنين، ثم خسروها، وما كان لهم إلا أن يخسروها، لأنها ضد إرادة الله في الأرض، ولأنها ضد إرادة السماء في الحياة، ولأنه ليس من باب الحكمة، ولا من المنطق، ولا من العقل، ولا من أي باب، الاستمرار في سبيل رهانه الوحيد هو الخسارة المؤكدة.
كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب على مشارف الحياة الآخرة، حين قال ما معناه إنه لو استقبل من عُمره ما استدبر، لفعل كذا، وكذا... وبالقياس، ومع الفارق بالطبع، فإن كل فرد يؤمن بالعنف بيننا، ليس في حاجة إلى أن يقضي أيامه فيما هو فيه، فيتمنى في النهاية أن يستقبل من حياته ما استدبر، ليدرك عدم جدوى طريق العنف، وكذلك كل جماعة تؤمن بما يؤمن به هذا الفرد، فقرار «فارك» يختصر الطريق كله، ومن ورائها قرار «إيتا».