فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

العلمانية بين أكاديمي وراديكالي ومستشرق

لم يشوّه مفهوم لدى العرب والمسلمين كما تم مع «العلمانية». بدءاً من الترجمة الحاملة معها الكثير من العثرات، وليس انتهاءً بتفسير الترجمة، ظلّ التعريف المدرسي: «فصل الدين عن الدولة» متداولاً حتى لدى بعض الأكاديميين والمثقفين، بينما العلمانية أخص من ذلك، إذ تتعدد تأويلاتها، وتختلف أبعادها، وتتنوع تطبيقاتها، ولا يمكن الركون إلى نموذجٍ واحدٍ باعتباره هو الفيصل بين العلمانية الحقّة والأخرى الباطلة، بل الهدف من المفهوم إيجاد مناخ أكثر دنيوية، من أجل تنزيه الدين ورفع مقامه عن النزاعات بين الجموع، أو بين الأفراد المختلفين فيما بينهم في الدولة الواحدة. والعلمانية مفهوم قابل للتطوير والبناء والإبداء والإعادة مثل أي مفهومٍ سياسي. وكل الشحن والتفسير السريع للعلمنة قوبل بهجومٍ من فقهاء ومن مفكرين على حدٍ سواء كما في هجوم عبد الرحمن بدوي على فؤاد زكريا واصفاً إياه بالداعي إلى العلمنة، ومثال آخر في هجاء محمد الجابري للعلمانية حتى قارن طرابيشي بينه وبين يوسف القرضاوي الذي قال في برنامجٍ تلفزيوني: «إنني أتعجب من عدم إقامة حد الردة على العلمانيين»، وبكل حال فإن فهم الجابري للعلمانية كان من أضعف التحليلات السياسية التي قدمها على الإطلاق.
جورج طرابيشي وفي كتابه «هرطقات» خصص فصلاً بعنوان «بذور العلمانية في الإسلام» وفيه يساجل لا الحجج الإسلاموية وحدها، ولا الأكاديمية الناجزة والسريعة، وإنما حتى الاستشراقية، ضارباً بذلك مثلاً ببنارد لويس الذي يعتبر أن الإسلام: «أصله الجوهري اتصالي وليس انفصالياً كما هو حال المسيحية»، وذلك بغية نفي إمكانية حدوث تطور لدى المجتمعات الإسلامية ضمن تحليل نمطي، مما عزز من استحالة وجود علمانية في الدول الإسلامية. وفي ذلك يعلق طرابيشي: «وجدنا مستشرقين ومختصين بالدراسات الإسلامية يسايرهم في ذلك محترفون محليون للمنافحة عن الإسلام يؤكدون بوثوقية لا تحتمل الشك أن الإسلام لم يعرف مبدأ الفصل بين الدين والسياسة كما عرفته المسيحية في التمييز الإنجيلي الشهير، وكما في توزع السلطتين الروحية والزمنية بين الباباوات والقياصرة أو الباباوات والأباطرة في عهود الإمبراطوريات المقدسة الرومانية والبيزنطية والجرمانية ثم بين الباباوات والملوك مع انبلاج فجر الحداثة ونشوء الدولة القومية».
لكن هل يمكن لطرابيشي أن يضرب مثلاً لوجود نزعة «علمنة» في التاريخ الإسلامي؟!
يجيب: «فمع بداية سيطرة العجم من ترك وديلم وسلاجقة على الدولة في القرن الثالث للهجرة فصاعداً، عرف تاريخ الإسلام ما عرفه تاريخ المسيحية من توزع للسلطة بين الباباوات والأباطرة أو بين الباباوات والملوك، فظهر الأمير البويهي أو السلطان السلجوقي إلى جانب الخليفة العباسي وصادر منه السلطة السياسية الفعلية، ولم يترك له سوى السلطة الدينية الرمزية، وتحكَّم به أكثر من تحكم الأباطرة بالباباوات، خلعاً وقتلاً، بل سملاً للعيون إذا اقتضته ضرورة العبث واللهو كما حدث للخلفاء القاهر باللَّه والمتقي للَّه والمستكفي باللَّه».
من هنا نصل إلى نقض مزدوج لحجة استخدمها مفكرون إسلاميون وبعض رجال الدين وبعض المستشرقين، أن النموذج العلماني المتسم بنماذج فصل معينة تجاه تبويب المدينة بين المؤسسة الدينية والسياسة والواقع، وعليه فلا معنى لترديد تلك المقولة الساذجة حول استحالة تصور علمنة لدى المجتمع المسلم أو لبلد كله أو غالبيته من المسلمين.
ولو عدنا لكتاب «الدولة المستحيلة» لوائل حلاق نجده يقوم بالمحاججة نفسها ضد المناوئين المدعين استحالة وجود نماذج تمييز بين السلطات أو بين وظائف الدولة. يقول: «رأى المستشرق اللبناني المشهور إميل تيان (Emile Tyan)، ولقيت حجته رواجاً (بين المستشرقين) لعقود، إنه كان من نتائج مبدأ التفويض (للسلطات) الغياب الكامل للفصل بين السلطتين القضائية والتنفيذية. وهذا الرأي قائمٌ على معلوماتٍ خاطئة... حدّة التواطؤ بين السلطتين التنفيذية والقضائية، ألا وهو القوة الأخلاقية النموذجية للشريعة التي فرضت على القضاة والحكّام على حد سواء، وكقاعدة عامة، احترام استقلال القضاء. بعبارة أخرى، كان استقلال القضاء جزءاً أساسياً من الثقافة».
بآخر المطاف؛ فإن الهدف هنا إزالة لبس عمره أكثر من قرنٍ من الزمان، إذ يتم تداول تفسيرات ونتائج وأنماط حول العلمانية وعلاقات المجتمعات المسلمة معها، وهذا سببه عدم التدقيق بتاريخ المفهوم وتاريخ الدول، هذا مع وجود مبررات للحساسية من المفهوم منها الضخ الآيديولوجي، وادعاء دول طغيانية بأنها تتبع النظام العلماني كما في أنظمة بعثية بالعراق وسوريا.
الآن الرهان على الوعي الحقيقي بالمفهوم لنجد سبيلاً لتفسيره وطمأنة المجتمعات منه.