سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

لا الحفل يُغير من الحقيقة في القدس... ولا النقل!

انتقال السفارة الأميركية في إسرائيل، من تل أبيب إلى القدس، لن يكون آخر الدنيا؛ لأن المجتمع الدولي الذي خاطبته السعودية هذا الأسبوع، وطالبته بأن يتحمل مسؤولياته في وقف العنف ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وفي حماية الشعب الفلسطيني، لم يشأ أن يشارك في الاحتفال بنقل السفارة، ولم يخرج عنه على أي مستوى، ما يفيد رضاه عن عملية النقل كلها، ولا بالطبع عن العنف الإسرائيلي الذي مارسته الحكومة الإسرائيلية، في حق فلسطينيين خرجوا في القطاع يعلنون رفض قرار النقل، ويعلنون رفض الاحتفال بقرار النقل!
وعندما تخاطب الرياض المجتمع الدولي، فهي تعني الدول التي تكتسب عضوية الأمم المتحدة في هذا المجتمع، وتنهض بمسؤوليات لها إزاء الأحداث الكبرى فيه، وتحترم مبادئ القانون الدولي، وترفض أن تُداس هذه المبادئ في القدس، أو في غزة، أو في الضفة بوجه عام، أو في أي أرض أخرى!
والحقيقة أن من حق كل فلسطيني أن يطمئن إلى أنه ليس وحده في هذا العالم، وأن المجتمع الدولي كان إلى جواره، في كل مرة جرى فيها عرض القضية على مختلف الدول داخل منظمة الأمم المتحدة، سواء على مستوى الجمعية العامة، وهي الدائرة الأوسع التي تضم كافة الدول، أو على مستوى مجلس الأمن، وهو الدائرة الأضيق التي تجمع الدول الخمس صاحبة العضوية الدائمة، مع دول عشر تتغير عضويتها وتتبدل كل عامين!
في كل مرة كان هذا المجتمع الدولي يجد قدراً معقولاً من الشجاعة، يقف به في صف الشعب الفلسطيني، وفي صف قضيته، وكان ذلك سابقاً على قرار نقل السفارة، الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترمب في أول ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي. فقبل القرار بأسبوعين، تم عرض قضية علاقة القدس بإسرائيل، على الدول الأعضاء في المنظمة، وكانت النتيجة أن 151 دولة، من بين 192 دولة، هي مجمل دول العالم الأعضاء، قالت بأفصح لسان إنه لا علاقة بين القدس وبين إسرائيل!
ويبدو أن استفتاءً من هذا النوع، أو بمعنى أدق نتيجة بهذا الوضوح، هي التي دفعت الرئيس ترمب إلى الإسراع في اتخاذ قراره، وإلى الإعلان عنه، دون أن يبالي بأن القرار - قبل أن يصدر - كان يواجه مجتمعاً دولياً رافضاً في إجماله، ودون أن يهتم بأن نسبة تصل إلى ثلثي دول المجتمع الدولي كله، قالت لا للقرار، بأعلى صوت، من فوق منصة أكبر منظمة دولية، ومن فوق الأرض الأميركية نفسها التي تستضيف مقر الأمم المتحدة في نيويورك!
وإذا كان الاستفتاء الذي سبق القرار، قد جاء بمثابة لطمة سابقة له، كقرار، فإن ذلك لم يمنع الدول الأعضاء من توجيه لطمتين لاحقتين إليه، من فوق المنصة نفسها، عندما جربت إدارة الرئيس ترمب عرض قرارها على شتى الدول، لعلها ترى أين يقف العالم مما تفعله، غير عابئة بقانون دولي، ولا بقرارات شرعية دولية صدرت تباعاً من قبل، ولا بمبادرة عربية كان الملك عبد الله بن عبد العزيز - يرحمه الله - قد طرحها في أثناء قمة عربية انعقدت في بيروت، وقت أن كان هو ولياً للعهد في بلاده!
صدر القرار، وتصورت واشنطن أن صدوره سوف يخلق أمراً واقعاً، ليس فقط في القدس، وإنما في أنحاء الأرض، وأن ذلك سوف يغير بالتالي ويبدل من المواقف في داخل المنظمة الدولية، فإذا بها عند عرض القرار على المستويين - مستوى الجمعية العامة ومستوى مجلس الأمن - تواجه موقفاً لم تكن بالتأكيد تتوقعه، ولا كانت تتحسب له، ولا كانت قد أعدت نفسها للتعامل معه!
على مستوى الجمعية العامة صوتت 128 دولة، ضد قرار أميركا نقل سفارتها من تل أبيب إلى مدينة القدس، وكان المعنى في هذه الكتلة التصويتية الكبيرة، أن الغالبية من الدول تقول لا للقرار، ولا تخضع للضغط الأميركي ولا تقبل به، وترى أن سياسة فرض الأمر الواقع التي تريد إدارة الرئيس ترمب فرضها في المدينة المقدسة، هي سياسة بلا سند دولي، وهي سياسة يجب أن تتغير، وهي سياسة يجب أن يلتفت صانعوها في البيت الأبيض، إلى أن القدس مدينة محتلة، وأن القدس الشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية، التي لا بديل عن أن تقوم جنباً إلى جنب مع الدولة الإسرائيلية!
وعندما انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في رام الله، في 30 أبريل (نيسان) الماضي، قال الرئيس محمود عباس في جلسة افتتاحه عبارات أربع، لخصت القصة كلها في كلمات قليلة. قال: «لا سلام من دون القدس، العاصمة الأبدية لفلسطين، ولا دولة من دون غزة، ولا دولة في غزة!». وهي عبارات قصيرة، وسريعة، ولكنها مُعبرة عن يقين كل فلسطيني، على أوضح ما يكون التعبير عن المعاني، وذاهبة إلى هدفها من أقصر طريق، ومؤكدة بديهيات في شأن الدولة الفلسطينية، لا يجوز أن تغيب عن صانع القرار الأميركي، إذا ما أراد أن يواصل دور الوسيط النزيه في حل القضية!
وعلى مستوى مجلس الأمن، جرى عرض القرار في جولة ثانية، وأخيرة. وكم كانت المسألة مفاجأة، ومفاجئة، في لحظة تبين فيها للإدارة الأميركية، أن صوتها في العملية التصويتية كان وحيداً، وأنها كانت تغرد وحدها، وأن 14 دولة قالت لا للقرار، وأن الدولة رقم 15 لم تكن سوى أميركا نفسها، وأن دولاً حليفة وصديقة لها في المجلس، وعلى رأسها بريطانيا، قالت لا بملء الفم، ولم تجد في ذلك شيئاً من الحرج!
وبالقطع، لم تكن حقائق ولا أرقام كهذه، غائبة عن وزير الخزانة الأميركي، ولا عن إيفانكا، ابنة الرئيس ترمب، ولا عن زوجها جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الخاص، ولا عن أعضاء في الكونغرس الأميركي، اصطفوا جميعاً إلى جوار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في حفل نقل السفارة الذي أقيم في القدس. وإنْ غابت الحقائق والأرقام في الظاهر، فإنها ستكون حاضرة في العقل الباطن؛ لأنه لا النقل سوف يغير من الحقيقة في شيء، ولا الحفل!
والمعنى، أن اليأس قد يستبد بالفلسطينيين في مواجهة قوات الاحتلال، ثم المعنى أن الإحباط قد يستولي على نفوس كثيرين بين الفلسطينيين، أمام ممارسات لسلطات احتلال لا تعبأ كثيراً بقانون دولي، ولا تخضع لإرادة غالبة بين الدول. قد يستبد بهم اليأس، وقد يستولي عليهم الإحباط، ولكن هذا لا يمنع أن المجتمع الدولي الذي خاطبته المملكة، وراحت تدعوه إلى أن ينهض بمسؤولياته، إنما يقف في كيانه الأعم مع الحق الفلسطيني، ويميل إلى حيث يتعين عليه أن يميل، عندما يكون الأمر محل استفتاء، أو موضع إبداء رأي!
وأي مراجعة للجولات الثلاث في الأمم المتحدة، وعلى الأرض الأميركية، حول علاقة القدس بإسرائيل، مرة، وحول قرار نقل السفارة، مرتين، سوف تقود في النهاية إلى هذه الحصيلة فيما يخص موقف الكتلة الأكبر في مجتمعنا الدولي، ولن تؤدي إلى غيرها!