خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

للسان الساخر مشكلاته ومخالبه

كثيراً ما يوقع اللسان الساخر صاحبه في مطبات جارحة. وأنا أدرى الناس بذلك. وقد حل هذا المصير بـ«النمر» الفرنسي جورج كليمنصو. فبعد كل ما حققه لبلاده فرنسا من نصر مبين في الحرب العظمى، ومن مكاسب في مرحلة السلم، فإن أعضاء مجلسي النواب والشيوخ انقلبوا عليه بسبب طول لسانه ولم يعطوا أصواتهم له عندما رشح نفسه لرئاسة الجمهورية. وقد غضب عليه بصورة خاصة البرلمانيون الكاثوليك بسبب إطالة لسانه على الكنيسة التي كانت لها مكانة خاصة في المجتمع الفرنسي. استغل ذلك خصمه اللدود أريستيد بريان، فراح يخيف الناس مما سيحدث لو أنهم انتخبوه للرئاسة. قال: إذا انتخبوا كليمنصو رئيساً للجمهورية وتوفي في ولايته، فستقام في قصر الإليزيه جنازة علمانية فخمة!
لكنه لم يمت ولم ينتخب وعاش حتى عام 1929، وقد أوصى قبل أن يموت بأن يدفنوا نعشه عمودياً، لأنه أراد أن يبقى صامداً واقفاً على قدميه في الدنيا وحتى في الآخرة. هكذا كان؛ وبقيت روحه المتحدية الوثابة التي أرغمت حتى لويد جورج، رئيس الحكومة البريطانية، على أن يصفه هكذا؛ فقال: إن كليمنصو مخلوق غريب حقاً، ففي كل سنة يبدو أصغر مما هو بسنة، وتزداد مخالبه مخلباً! وكم عانت من مخالبه سوريا ولبنان في عهد الانتداب.
بقي حتى في سن الشيخوخة مثالاً للنشاط، ولم يمنح نفسه أي يوم راحة طيلة حياته. وعندما جاءه أحد الأطباء (وهو في عمر الثلاثة والثمانين) يعرض عليه دواء جديداً لإعادة الشباب، أجابه «النمر» الفرنسي قائلاً: ليس الآن. تعال عندما أدخل في الشيخوخة!
ولكنه صاغ خلال السنوات الأخيرة من حياته كلمة حكيمة بارعة. قال: عندما يتقدم المرء في السن تصبح الأيام مثل قطع نقدية من فئات صغيرة؛ قطع من فئة العشرين فرنكاً مثلاً.
اكتسب كليمنصو لقب «النمر» من سلوكه الصلب والشجاع خلال الحرب العظمى. ولكنه أظهر كثيراً من هذه الصلابة والروح القتالية حتى في أيام السلم، كما اكتشف العرب. زاره أحد الولاة المتهمين بالرشوة، وراح يستعرض شكواه له عندما كان وزيراً للداخلية. فلم يظهر الوزير أي اهتمام بما كان قد قاله الوالي. واضطر هذا إلى أن يتوقف عن كلامه ويسأله: «يا سيدي الوزير، هل أنا أحمق؟ فلم يجبه، فتابع كلامه وسأله: هل أنا قذر وخسيس؟ وهنا سنحت الفرصة للنمر ليجيب، فقال: ليس الجمع بين الوظائف شيئاً مستحيلاً»!
يظهر أن الزعيم الفرنسي كان يستأنس بلقب «النمر»، فعندما كان يعاني من الإكزيما واضطر إلى إخفائها تحت زوج من القفاز، لاحظت ذلك إحدى السيدات دون أن تعرف السبب، فسألت: لماذا يضع قفازاً على يديه وهو يتناول الطعام؟ صعقها كليمنصو بنظرة مفترسة، ثم قال لها: لكي أخفي مخالب «النمر» أيتها السيدة الفاضلة!