سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

وجوه من رمضان: هدية موقف سيارات

خرجنا من عصر الراديو وأخذنا نتعرّف إلى المقرئين في مصر وخارجها. ولأنني في لبنان أمضي وقتاً غير قصير في السيارة، خصوصاً رحلات الجبل، فقد ملأت سيارتي بالأشرطة القرآنية ولا شيء غيرها.
لم يخطر لي مرة أن عمّال المرأب (موقف السيارات) ينقّبون في السيارة بعد ذهاب صاحبها إلى موعده. وذات يوم عدت فوجدت على مقعدي ثلاثة أشرطة للشيخ محمد صدّيق المنشاوي. ذهبت إلى المسؤول عن الموقف أسأله عن صاحب البادرة، فقال: أنا! وأضاف مبتسماً: بعد المنشاوي لن تعذّب نفسك في الاختيار.
قبل مدة، كتبت في هذه الزاوية عن الذين لهم أفضال عليّ، وعددت بينهم الشيخ المنشاوي. وكتب قارئ كريم يستوضح متعجباً: ما شأن الشيخ في الأمر؟ لعلّني أجبته الآن. إن الذين لهم أفضال علينا ليس بالضرورة أن نعرفهم مباشرة فقط. أما أنا، فمنذ أن تعرّفت إلى المنشاوي صرت أشعر بارتقاء روحيّ وسكينة نفسية عارمة؛ ذلك لأنه يعطي التلاوة من روحه، ويقرأ الآيات وكأنه يوصل رسالتها. وفي بعض التسجيلات تسمع من حوله الناس يكبّرون وقد ملأتهم الغبطة العليا.
تخفف التلاوة من وقع الأحزان على الناس. وفي مصابهم يجدون في الذكر الحكيم عزاءهم. وقال البعض إن صوت المنشاوي «يعانق السماء» لشدة ما يوحي بالإيمان. وفي «أيامنا» كان جميع المقرئين الكبار من مصر، لأسباب كثيرة، أهمها وجود الأزهر. ومعظمهم كانوا ينشأون في بيوت متديّنة، أو لآباء مقرئين مثل شعيشع أو المنشاوي. غير أن الحال تغيّر مع بروز مقرئين من سائر أنحاء العالم العربي، في المغرب والسعودية والكويت وفلسطين.
أحد الأسباب الأخرى في «أيامنا» أن الإذاعات العربية كانت ضعيفة وأكثرها محلي، في حين كانت إذاعة القاهرة تصل إلى كل بيت، هي و«صوت العرب». وفيما كان مقرئو «القاهرة» ينادون على الألفة والوحدة، كان «صوت العرب» ينادي على الفرقة والخراب، ويزرع بذور الشقاق القائم حتى اليوم.
ذهب مقرئون مثل «صديقي» أبو العينين والمنشاوي إلى العالم العربي تلتف من حولهم الناس بالآلاف وتصل أصواتهم إلى الملايين. ونقلوا إلى الكويت وليبيا والمغرب وغيرها، صوت مصر المرتل والمبتهل والتقي. وعندما جاء مبعوث من الرئيس جمال عبد الناصر يدعوه إلى «تلاوة يشرّفها الرئيس بحضوره»، قال: لقد أوفد الرئيس إليّ أسوأ من عنده لأنه يعرف أن جميع الأمم تتشرف بسماع القرآن.
إلى اللقاء.