إميل أمين
كاتب مصري
TT

بومبيو... الآن يتكلم الشعب الإيراني

قضي الأمر وانطلق السهم، فما أعلنه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أكبر وأعرض بكثير جداً من مجرد الحديث عن تغيير سلوك إيران سيئ السمعة.
ألقى بومبيو الكرة في الملعب الإيراني واضعاً الإيرانيين أنفسهم أمام استحقاقات جواب لسؤال مرير بعضهم يداريه والآخر يواريه، فيما نسبة غالبة خرجت إلى الشوارع تؤكد موقعه وموضعه من الحياة في الداخل الإيراني: «ماذا قدم لكم المرشد والنظام؟ وبماذا أفادكم فيلق القدس وبقية أركان الحرس الثوري طوال أربعة عقود؟»
بومبيو قبض على الجمر في خطوط طول وعرض استراتيجية إدارة ترمب الجديدة نحو إيران، تلك التي بدأت بإلغاء الاتفاقية، والآن من الواضح للقاصي والداني أن المطلوب هو تغيير النظام العقائدي الذي صدّر إلى العالم برمته، وإلى دول الجوار بنحو خاص عدم الاستقرار والإرهاب المنظم.
بكلمات واضحة وعبارات تكاد تعبر عن السهل الممتنع، ومن دون ترك مساحات للكلمات المتلاعبة، أنهى بومبيو الجدل حول المطلوب من إيران، والذي يبدأ من أن تودع آمالها في امتلاك السلاح النووي، وهذا لن يتأتى إلا إذا أوقفت وبالمطلق، كل عمليات المراوغة من أجل التخصيب سراً، الأمر الذي يعني حتمية فتح كافة منشآتها النووية للتفتيش، وكذا مواقع ومواضع لقواتها المسلحة يشك في أنها تحوي أجزاء من برنامجها النووي.
طهران مطلوب منها وعلى وجه الاستعجال إنهاء برنامجها الصاروخي، وإطلاق سراح الأجانب المحتجزين هناك، والأميركيون في المقدمة منهم، عطفاً على ذلك يتوجب عليها في الحال سحب قواتها من سوريا، وإنهاء دعمها لتنظيم «القاعدة» سواء كان الدعم لوجيستياً أو أدبياً، ناهيك عن بديهيات من نوعية ضرورة احترام سيادة العراق.
أما الأذرع الأخطبوطية وأدوات القوة الخشنة لإيران في المنطقة، فبات عليها أن تواجه حقائق جديدة على الأرض، مفادها أن زمن تصدير الفتنة إلى الخارج قد انتهى، وأن تاريخاً جديداً مع واشنطن قد بدأ للتو، وربما لهذا قدر جواد ظريف وزير خارجية إيران المشهد تقديراً صائباً، حين أشار إلى أن الاتفاق النووي قد دخل مرحلة الموت السريري، ذلك أنه أدرك ما ورائيات المشهد النهائي المقبل.
يعلم بومبيو تمام العلم أن النظام الإيراني سوف يسعى إلى تسويف الوقت بكل الآليات التي يمكنه أن يتلاعب بها، ويذهب رجل المخابرات العتيد الذي انعطف إلى سكرتارية الدولة الأميركية إلى أنه لا جدول زمنياً لديه للتغير في الداخل الإيراني، وأن الذين يناط بهم تحديد أبجديات هذا الجدول ومعالمه وملامحه وتوقيتاته، هم الشعب الإيراني الذي كرّر ما قاله رئيسه سابقاً من أنه شعب عظيم، له تاريخ وإرث حضاريان، وأنه يستحق حياة أفضل من تلك التي يحياها.
لن تذهب واشنطن منفردة هذه المرة، كما فعل البعض من حكام البيت الأبيض سابقاً في المواجهة القادمة لا ريب مع إيران، بل إن القائمين خلف الستار، وبخاصة مجموعة الدراسات الأمنية التي تعد الجهة الناصحة لمجلس الأمن القومي الأميركي، هي التي بلورت طرح قيام واشنطن بإرسال وفود إلى حلفاء جدد وقدامى في الشرق الأقصى، إضافة إلى الحلفاء التقليديين في الشرق الأوسط لمناقشة المستجدات في المشهد الإيراني.
لن تضحى أميركا هذه المرة إمبراطورية منفلتة، كما اعتاد على وصفها المؤرخ الكبير بول كيندي، بل نراها بشكل أو بآخر تسعى في طريق أكثر عقلانية، إذ تستدعي أرصدة دبلوماسية وسياسية احتياطية لدول تعلم تمام العلم ما تمثله برامج إيران النووية والصاروخية وأدوارها المخربة على سلامة العالم، ولهذا أشار بومبيو إلى أستراليا واليابان، وإلى مصر والبحرين، مع التذكير بالحلفاء الرئيسيين في الخليج العربي كالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. مقدماً وعن طريق توقعات محسوبة ومحسوسة يمكننا القول إن المرشد ومن لف لفه، سيضربون عرض الحائط بكل ما نادى به بومبيو، ولهذا فإن العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة سوف تفعل فعل السيف البتار في تحركات الدولة الإيرانية، وحتماً ستنعكس على الجماهير التي خرجت تطالب بالخبز غير مرة، ولم يعد يعنيها تصدير ثورة الخميني إلى دول الجوار، أو رفع علم الثورة على العواصم، وهي وحدها القادرة أن تقول... كفى الآن وهنا.
بومبيو يؤكد بلغة اليقين القادر أن إدارة ترمب لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بما جرت به المقادير زمن الرئيس السابق باراك أوباما، وهو ما أثبتته التجربة بالفعل، فقد أوفى ترمب بكل ما وعد به خلال حملته الرئاسية، واليوم الحديث عن الوقوف بقوة وعزم بجانب الشعب الإيراني ضحايا هذا النظام الشمولي والاستبدادي، وهو له وحده أن يقرر متى يمكنه تغيير النظام، والمثير إلى حد الهلع بالنسبة للملالي أن بومبيو أكد من جديد، أنه إذا لم يقم الشعب الإيراني بما يتوجب عليه القيام به، فالعقوبات ستدفعه دفعاً في هذا السياق، ومن أجل تشجيعه على إزاحة عقبة كؤود من طريقه، فإنه موعود بعلاقات دبلوماسية طبيعية وبمساعدات تكنولوجية، ودعم الاقتصاد الإيراني، غير أن هذا يحتاج إلى أفعال وسياسات معتبرة بداية الأمر وآخره.
هل استراتيجية بومبيو خطيرة ومثيرة في ذات الوقت؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك، فإيران الملالي لن تكون لقمة سائغة، وهي ترى انهيار رؤاها الدوغمائية على عتبات بومبيو - ترمب، ولهذا فإن أفضل الخيارات بالنسبة إليها قد يتمثل في الهروب إلى الأمام، وأيسر السبل لها هو إشعال المنطقة المشتعلة بالأصل، ومحاولة جر الجميع إلى حرب إقليمية، لا تنفك أن تتحول إلى مواجهة عالمية مسلحة.
استراتيجية بومبيو قطعاً فيها من التنسيق مع الأوروبيين الكثير جداً فقد أثبتت الأيام أنهم غير قادرين على الخروج من تحت المظلة الأميركية، سياسية كانت أو عسكرية، بل واقتصادية، وسواء قبلوا ذلك محبة وكرامة، أو عنوة وبراغماتية، أما الروس فمواقفهم تزحزحت مؤخراً بما يعني أن الصفقات التحتية تفعل فعلها، فيما الصين عينها على التبادل التجاري مع واشنطن إلى أن تحين ساعة الفراق، وستعلن ذاتها بالمطلق قطباً مناوئاً لأميركا، وهذا لا يتبدى في الزمن القريب.
عندما يعلن بومبيو استراتيجيته من على منصة مؤسسة التراث الأميركية، فليعلم الملالي أن السياسات المحافظة قد أعلنت، وأن الغيوم السوداء فوق طهران تنذر بتسونامي شديد الوقع عما قليل.