فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

برنارد لويس بحوث وحكايا وأساطير

حتى بعد رحيله، يثير برنارد لويس الجدل حوله؛ ضده ومعه، هكذا درج اسمه بين الباحثين طوال قرنٍ من الزمان، بين ممتنٍ لبحوثه ومنهاجه، أو مهاجم له لـ«صهينته» وكراهيته للعرب والمسلمين. بمجرد البحث في «يوتيوب» حول اسمه، ترى محاضرات عديدة تهوّل من دور الرجل في رسم خرائط العالم والنيل من المسلمين. الكثير مما يتداول حول أدواره في صناعة السياسة الأميركية لا يعدو كونه مبالغاتٍ فجة، وآية ذلك أن اللقاءات التي أجريت معه حول أقرب حدث كبير لعصرنا ممثلاً بإسقاط بغداد وحرب أميركا بالعراق توثق نفيه لأي تأييد لتلك الحرب، وأبدى استياءه من اتهامه بأدوارٍ لم يلعبها، بل كان رأيه مقتصراً على الرعاية السياسية الأميركية للديمقراطية بالعراق، بخاصة وقد غدا شماله قادراً على لعب أدوار يمكن لأميركا الدخول ضمن مسار دعمها.
في «تويتر» حدث نقاش مهم، فبعد أن كتب مرزوق بن تنباك: «برنارد لويس يرحل يوم الجمعة الماضي بعد أن وضع عام 1980 خرائط مشروع تقسيم الدول العربية، وظهرت ملامح مشروعه في العراق، والسودان، وسوريا، وإن لم يكتمل فهو بالطريق»، يعلّق يوسف الصمعان عليه مطالباً بالمصدر، ثم يضيف: «لم أمتدح برنارد لويس... فقط تمنيت إرشادي إلى خرائط الشرق الأوسط التي رسمها... أنا فقط أزعم أن هذا التصور الكرتوني للمؤسسة الأميركية الحاكمة على أنها حلقة من المريدين عند الإمام المرشد لويس يطيعونه 40 عاماً هو تصور ساذج». وعلى الضفّة الأخرى نقاش بين محمد العضاضي وعثمان العمير، حيث استاء العمير من وصف الأول للويس باليهودي، معتبراً ذلك من النبز، ولكن العضاضي يؤيد الصمعان بأن البعض «يرون الأشياء من خلال عدساتهم العربية المحلية، ولهذا يبالغون بخلع أدوارٍ على أكاديميين مثل لويس أو كيسنجر». هذا النقاش الأكاديمي السعودي يجعل الصورة أكثر وضوحاً بين المبالغات الشعبوية وبين الدور الأصلي من دون تهويل أو تضخيم.
لا جدال في أن لويس من أهم الباحثين في تاريخ المسلمين، ومن الطبيعي متابعة الرؤساء الأميركيين وقادة المفاصل الأساسية لمقالاته وكتاباته، (كما في حديثهم حول حمل كونداليزا رايس لمقالاته)، فهو حفر في أرشيف المسلمين بكل فضاءاته المختلفة، العربية والتركية والإيرانية، وعليه فإن الاحتفاء بكتاباته بعد كل حدثٍ مفصلي مثل أحداث 11 سبتمبر (أيلول) وغيرها يكون ضمن سياق الرغبة في الفهم، وللباحثين مكانة في الدول المتطورة، فاستشارة المسؤولين للويس أو لعجمي وغيرهما إنما هو استعانة ذكية بخبير بشأنه، ولعالم بمجاله.
تتعدد صورة لويس بين الباحثين المسلمين؛ عبد الرحمن بدوي يهاجم أبحاث لويس (برغم تقديره المتين لأستاذ لويس والمشرف على أطروحته ماسينيون)، وينعته بكل عبارات التآمر على الثقافة الإسلامية، بينما أركون ينتقد الاثنين، بدوي ولويس، باعتبارهما غير منخرطين بالعدة المعرفية المفاهيمية الجديدة، واصفاً إياهما بالباحثين «الفللوجيين»، ولذلك طالبهما بالدخول ضمن مفاهيم الثورة الانثربولوجية، والإفادة من الأركيولوجيا، وصرعات البنيوية وما بعدها، ونتائج ما بعد الحداثة «العقل المنبعث الصاعد». بينما جورج طرابيشي حاجج برنارد لويس الذي نفى وجود فصلٍ بين الدين والدولة في تاريخ الإسلام، وقد كتبتُ عن نقده هذا من قبل.
وأركون في واحدٍ من آخر كتبه «نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية» يأخذ على لويس أنه مثل بقية المحافظين الجدد يخلعون المشروعية الفلسفية على أعمال أميركا الحربية، قائلاً: «أرفض مواقف برنارد لويس التي عبر عنها بعد أحداث 11 سبتمبر عندما نشر كتابه (أين تكمن العلة؟!) بمعنى أين يكمن الخلل في الحضارة الإسلامية، الذي أدى إلى ارتكاب مثل هذه التفجيرات الهائلة، لا ريب أنه ينبغي طرح هذا السؤال لكن دون أن يكون جوابنا هو الجواب الذي أعطاه لويس. ينبغي أن نطرحه على النحو التالي، ما هو الخلل الذي طرأ على الحضارة العربية، والإيرانية، والتركية، والإسلامية إلى درجة أنه أدى إلى عنف تدميري لها وللبشرية ككل» (ص:271).
أغنى برنارد لويس الحقل البحثي بعناوين استثنائية وجادة. كتب حول الإسماعيلية، وفرقة الحشاشين، وإسطنبول وحضارة الخلافة الإسلامية، وكتب في «أزمة الإسلام» و«الشرق الأوسط... ملخص للألفي سنة الأخيرة». لم يكن راسم خرائط بالمعنى الحربي الذي يشبع الخيال البوليسي للبعض، بل يقول عن دوره: «إنه يجوز أن ينتظر من المؤرخ أن يتنبأ بالمستقبل بقدر من المعقولية، ولكن هناك أموراً معينة يستطيع المؤرخ فعلها، ويجب عليه أن يفعلها؛ فهو يستطيع إدراك الاتجاهات، وبمقدوره أن يرى ماذا كان يحدث وماذا يحدث الآن، وبذلك يلحظ التغيرات والتطور، ومن ذلك يتيّسر له أن (يصوغ)، ولا أقول يتنبأ بالسيناريوهات الممكن حدوثها والأشياء التي يمكن أن تمضي في هذا الاتجاه أو ذاك... بالطبع سيكون من السهل دائما التنبؤ بالمستقبل البعيد ولكن ليس المستقبل القريب»، ومن ذلك استنتاجه حول جماعات الإسلام السياسي والديمقراطية؛ «فالإسلام السياسي يتغير عبر الزمن، ولكن ليس بالضرورة إلى الأفضل. إن الاندفاع نحو الأسلوب الغربي في الانتخابات، بمعزل عن تقديم حلول لمشاكل المنطقة، يزيد من خطورة هذه المشاكل، ولذا أنا أخشى جاهزية جماعات الإسلام السياسي الراديكالي لاستغلال هذا المسار من دون هداية ورشد، في انتخابات حقيقية حرة ونزيهة من المرجح أن تفوز بها الأحزاب السياسية الراديكالية».
أما كاتبه المفضل، كما في حوارٍ معه فهو «رفاعة الطهطاوي، الذي درس في جامعات أوروبية وعاش في مصر في منتصف القرن التاسع عشر. لقد كتب أعمالاً مهمة عن مبادئ الإسلام وتوافقها مع الحداثة خلال فترة تغيير مهمة تداخل فيها العالم الإسلامي مع الغرب في القرن التاسع عشر. إن منظوره ومطارحاته زاد من ثرائها فهمه لأوروبا، وكيف أن مبادئ الإسلام والحداثة الأوروبية من الممكن أن يكمل أحدهما الآخر». نلاحظ هنا نفيه ضمنياً لتهمة الانطباعية الاستشراقية التي أُلصقت به حول استحالة توافق الإسلام مع الحداثة.
تحال إلى لويس نبوءة صراع الحضارات باعتباره طرحها قبل صمويل هنتنغتون، بينما الأطروحة ما صنعت الصراع ولا خططت له، وإنما تنبأت بحدوثه، كما يتنبأ المؤرخ ضمن معطياته بحدث كبير، أو بخطب جلل. رحل لويس وكان في موته كما في حياته يثير السجال، إنه شخصية فريدة وباحث استثنائي، نسب إليه ما لم يقله، وحمل أدواراً ملّ من التبرؤ منها، حيكت حول شخصيته أساطير الحروب، ونسبت إليه إدارة غرف رسم الخرائط ومؤامرات التقسيم، وجل ذلك لم يكن قط إلا وهماً.