عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

الصوم العلاجي

موضوع علمي نشر أخيراً عن فوائد الصوم وتأثيره في تجديد الخلايا وتحفيز النظام المناعي، والوقاية من عدد من الأمراض بما فيها ألزهايمر، والشلل الرعاشي (باركنسون)، والسكري وأمراض القلب، جعلني أغوص في قراءة موضوعات عدة تدور حول أبحاث صادرة عن عدد من الجهات والمراكز والجامعات خلصت كلها إلى أن الصوم له فوائد صحية كثيرة، إلى درجة أن هناك جهات توصي به بعض المرضى فيما صار يعرف بـ«الصوم العلاجي». الواقع أن حجم ما هو منشور حول الفوائد الصحية للصوم مدهش، كثير منه قديم ومعروف، وبعضه جديد مثير ومبشر في مجالات الوقاية من أمراض باتت منتشرة بسبب نمط حياتنا المعاصرة.
هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) نشرت في بداية الشهر الحالي تقريراً عن أن عدداً من الجهات العلمية وشركات الأدوية ترى في بحوث قادها العالم الياباني يوشينوري أوسومي وحصل بها على جائزة نوبل عام 2016، طريقاً جديدة للوقاية من أمراض كألزهايمر، وكذلك لتقليل الوزن بما يساعد في مكافحة أمراض أخرى مثل السكري وأمراض القلب. المثير أن هذه العملية في تحفيز الخلايا يمكن أن تحدث بتطوير أدوية معينة، كما يمكن أن تحدث طبيعياً عن طريق الصيام وممارسة الأنشطة الرياضية. وبالنسبة لتأثير الصيام أجريت تجارب على الفئران فظهرت نتائج خلال 24 ساعة على خلايا الدماغ وعلى الكبد مثلاً، داعمة الرأي القائل بفوائد الصوم.
دراسات أخرى للبروفسور الأميركي مارك ماتسون، أشارت إلى أن الصيام مرتين أو أكثر في الأسبوع ينشط خلايا الدماغ، وقد يساعد في تحسين الذاكرة والوقاية من ألزهايمر والشلل الرعاشي. وهو يعتبر أن الحد من الأكل في الصيام له تأثير مباشر في تحفيز خلايا الدماغ، وفي حماية النظام المناعي للجسم من خلال تشجيع الخلايا على تجديد نفسها، إضافة إلى تأثيراته على عمل وظائف أخرى في الجسم. إلى جانب هذه الدراسات نشرت أبحاث أخرى في أميركا أشارت إلى أن الصيام يمكن أن يخفض احتمالات الإصابة بأمراض القلب، ويساعد في علاج آلام المفاصل.
الصيام المذكور في هذه الدراسات والأبحاث يختلف عن الصوم الإسلامي؛ لأنه يتركز فقط على الامتناع عن الأكل، لكن التأثير الإيجابي موجود في الحالتين. هناك بالطبع من يرى في الصيام وسيلة للحد من مشكلات السمنة والوزن الزائد، باعتبارها إحدى مشكلات العصر الصحية الكبرى، وترتبط بالكثير من الأمراض. فوفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن نسبة السمنة حول العالم تضاعفت ثلاث مرات منذ عام 1975، والدراسات تقول إن هناك نحو ملياري شخص بالغ (من سن 18 فما فوق) حول العالم يصنفون على أن وزنهم زائد، منهم أكثر من 650 مليوناً يعانون السمنة وفق التعريف الطبي الذي يفرق بينها وبين «الوزن الزائد»، والعالم العربي يحتل موقعاً متقدماً في القائمة. أضف إلى هؤلاء 340 مليوناً من المراهقين والأطفال (بين سن 5 و19) يعانون من الوزن الزائد أو السمنة، و41 مليوناً من الأطفال تحت سن الخامسة الذين يقعون في دائرة الوزن الزائد والسمنة.
إحصائيات مخيفة، لكن الصادم أكثر هو أن النسبة الأكبر من البشرية تعيش في دول يموت فيها الناس من تداعيات الوزن الزائد والسمنة أكثر مما يموتون بسبب نقص الوزن. في بريطانيا مثلاً أشارت دراسة حديثة نشرت هذا الأسبوع إلى أن 31 في المائة من البريطانيين يعانون من السمنة، وأن هذه النسبة ستصل إلى 48 في المائة بحلول 2040 لو لم تتخذ إجراءات واسعة للحد من هذه الظاهرة.
في أميركا تمثل الظاهرة مشكلة أكبر، حيث يتوقع أن تبلغ نسبة من يصنفون بالسمنة إلى 55 في المائة بحلول 2040، نتيجة ذلك أن نسبة المصابين بمرض السكري في ارتفاع مستمر؛ إذ وصلت في بريطانيا اليوم إلى 10 في المائة من مجموع السكان البالغين، ما يكلف الخدمات الصحية 10 مليارات جنيه إسترليني سنوياً.
الواقع أن الإنسان لا يحتاج إلى استهلاك كميات كبيرة من الطعام، بل يحتاج إلى توازن في المأكل والمشرب وفي تخير أنواع طعامه، مثلما يحتاج إلى النشاط والرياضة بدلاً من الخمول الجسدي الذي تفرضه الحياة المعاصرة. ومع هذا فإن الدراسات العلمية الحديثة تذكرنا بالفوائد الجمة للصوم على الصحة بإحداث تغيرات في الجسم تقلل من مخاطر الإصابة بأمراض من السكري وأمراض الشرايين التاجية، إلى ألزهايمر والشلل الرعاشي.
المشكلة أن كثيراً من الناس في بلادنا يستهلكون من الطعام في رمضان أكثر مما يستهلكونه في الأشهر الأخرى، وبذلك تزيد أوزانهم وربما مشكلاتهم الصحية أيضاً. ترى بعض الناس، يصاب بحالة من «الهلع» في رمضان ويريد مائدة مكدسة أمامه بأنواع مختلفة من الأطعمة والحلويات والمشروبات، وينخرط في ماراثون للأكل فيلتهم ما بين الإفطار والسحور كميات كبيرة من الأكل في ساعات وجيزة يحتار الجسم في التعامل معها صحياً، وهذا أبعد ما يكون عن فلسفة الصوم. الجوانب الروحية والدينية للصيام معروفة، لكن ما نحتاج إلى تذكير أنفسنا به هو الفوائد الصحية التي تسندها اليوم الكثير من الأبحاث والدراسات الطبية.