داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

«الوجبات السريعة» لا تشبع العراقيين

من الغريب أن يدعو أحد الساسة الأميركيين، الآن وبعد خراب البصرة، إلى ترك العراقيين وشأنهم، بحجة أن النظام العراقي الحالي يعمل لصالح الشعب العراقي! وأن ما يُنشر وتتناوله وكالات الأنباء والصحف العراقية والعربية ومواقع التواصل الاجتماعي عن عمليات التزوير الواسعة في الانتخابات الأخيرة مجرد «مزاعم»!
لا أحد ينسى أن الولايات المتحدة هي أول مَن تدخَّل في شؤون العراق وشنّ حرباً مدمرة عليه أدّت إلى مقتل أكثر من مليون مواطن على مدى سنوات الاحتلال الثماني، تحت ذرائع ثبت باعتراف الأميركيين والبريطانيين أنفسهم أنها كانت كاذبة ومزورة، خصوصاً ما يتعلق منها بأسلحة الدمار الشامل المزعومة.
كان أمراً حسناً ومحموداً لو أننا قرأنا قبل 2003 أن سياسياً أميركياً يدعو إلى ترك العراقيين وشأنهم، لكن بعد أن حدث ما حدث وبعد أكثر من 15 عاماً على نكبة العراقيين الكبرى في العصر الحديث، فإن هذه الدعوة لا معنى لها، بل إنها تزيد الطين بِلّة في بلاد الرافدين. ويعرف الجميع الآن أن الخراب والفساد والميليشيات التي تشوه وجه العراق «الجديد» من العصائب إلى العصابات صناعة إيرانية استغلت فراغ الساحة بعد رحيل الأميركيين في عام 2011 لتنفرد بالعراقيين العُزَّل، وتحت تهديد أسلحة الميليشيات الطائفية تارة وشعارات «داعش» الإرهابية تارة أخرى.
ولا يستطيع أحد الجدال في الدور الإيراني، تخطيطاً وتنفيذاً، في كل ما حلّ في العراق من حرب أهلية ودمار مدن كاملة في نسخة مكررة مما حلّ بسوريا منذ عام 2011 حتى اليوم. «الإيرانيون مرّوا من هنا» شعارات لا ضرورة لكتابتها على الجدران في العراق وسوريا واليمن، لأن الرايات الطائفية والشعارات السياسية المغلفة بالدين كلها تنطق بالذي حصل.
ما زلنا نتذكر أيضاً أن سلسلة مؤتمرات «دول الجوار» بعد سقوط النظام العراقي السابق كان يتصدرها الإيرانيون من موقع قوة ونفوذ، وأحزاب حاكمة تدين بالولاء لمرشد الثورة الإيرانية، وهوس «تصدير الثورة» و«تشييع» المنطقة. لم تستطع تلك المؤتمرات الممولة من خزينة الشعب العراقي أن تقدم خطوة إيجابية واحدة للجم التدخل الإيراني، خصوصاً بعد إعلان واشنطن عن نيتها سحب قواتها من العراق، وهو ما حدث فعلاً باستثناء المستشارين الأميركيين وقوات حماية أمنية محدودة.
وطوال هذه السنوات لم تكف إيران، بمرشدها ورئيسها ووزير خارجيتها وقادة الحرس الثوري وفيلق القدس عن الحديث عن «انضمام العراق إلى الإمبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد»، ولم تتوقف طهران عن التدخل في شؤون العراق السياسية والاقتصادية والطائفية والسكانية، إلى درجة أنها كانت تحتفظ بالكلمة الأخيرة لنفسها في تشكيل الوزارات العراقية و«البيت الشيعي» والتحالفات الطائفية. ولم يرَ العراقيون أي دور لإيران في إعمار المدن والمنشآت المدمرة والبنى التحتية المخربة، ولم نقرأ أن إيران تبرعت بريال واحد في مؤتمر الدول المانحة لإعادة إعمار المدن المدمرة في حرب «داعش». لم تترك طهران سطراً واحداً لم تتدخل فيه من الطقوس الدينية، إلى الانتخابات البرلمانية، إلى توزيع الوزارات على المشاركين في العملية السياسية، إلى اختيار سفراء العراق في الخارج، إلى إخراج منظمة «مجاهدين خلق» الإيرانية المعارضة من الأراضي العراقية بعد تدمير معسكراتها وقتل المئات من أعضائها، إلى دعم وتمويل وتسليح الميليشيات الطائفية وإرسال دفعات منها إلى سوريا تحت شعار «حماية المزارات الدينية».
الآن، علينا أن نتأمل بحذر دعوة هذا السياسي الأميركي لترك العراقيين وشأنهم. فقد كان مستشاراً سياسياً للسفارة الأميركية في بغداد خلال الأعوام من 2004 إلى 2006، وعلى معرفة جيدة بتشكيلات فرق الموت الشهيرة في العراق إلى درجة أن هناك تقارير تلومه على تشكيل فرق موت مماثلة في سوريا حين كان سفيراً لبلاده في دمشق يوم بدأت مظاهرات المعارضة في عام 2011. وهو يحاول أن يبدو محايداً في هذا الذي يحصل في العراق، لكنه ليس محايداً حين يجزم أن «النظام العراقي الحالي يعمل لصالح الشعب العراقي».
لسنا ضد حرية الرأي، لكننا ضد حرية التزييف أو الادعاء. من حق العراقيين وحدهم أن يقولوا ما إذا كان النظام العراقي الحالي يعمل لصالح الشعب العراقي أو لصالح الأحزاب والحركات والميليشيات المدعومة من طهران، لكن «الوجبات السريعة» لا تحل المشكلة، بدليل أن كل مؤتمرات «دول الجوار» التي انعقدت في أجواء سياحية ترفيهية لم تقدم رغيف خبز واحداً لطفل عراقي جائع.
الإدارة الأميركية في فترة رئاسة جورج بوش الابن هي التي «خربتها وقعدت على تلتها»، وليس من المنطق أن يدعو الآن السياسي الأميركي المتقاعد روبرت فورد إلى كفّ يد الأميركيين عما يحدث في العراق. عليهم أن يزيلوا آثار العدوان الأميركي على العراق أولاً ويرموا الإيرانيين خارج الحدود، ثم يتركوا الأمر للعراقيين ليختاروا ما يشاءون.
لكنني أستدرك لأقول إن معرفة وجهة نظر السياسي الأميركي المتقاعد الذي يقول إنه أمضى خمس سنوات في العراق، تتيح لنا أن نقرأ وجهة نظر أميركي شارك في إعداد «الوجبات السريعة» للعراقيين، ونسي أن يقدم لنا مشروبات غازية تمنع عسر الهضم! والأمثلة كثيرة: مجلس الحكم الذي قام على أساس المحاصصة الطائفية والعنصرية، حلّ الجيش العراقي والأجهزة الأمنية، الانتخابات المتسرعة والدستور غير المتوازن، وكل ما تداعت إليه الأمور بعد ذلك من حرب شبه أهلية وتهجير وهجرة وتغيير سكاني وفساد.
الدعوة لترك العراقيين وشأنهم كلام حق يراد به باطل. وكل «الوجبات السريعة» الأميركية التي عرفها العراقيون منذ الخمسينات من القرن الماضي لا تشبعهم، فقد تعودوا أن تكون مائدتهم عامرة بما لذ وطاب...