إميل أمين
كاتب مصري
TT

عالم ما بعد صحوة الأساطيل

ضمن مساقات النظام العالمي ما بعد الجديد الذي يتخلق في رحم المستقبل، يمكن للناظر أن يرى تطورات مثيرة على صعيد صفائح العالم التكتونية، التي تنزلق بسرعة شديدة إلى صورة وهيئة ومغايرة، والأكثر إثارة أن بعض تلك الصور يعود بنا إلى زمن الحرب العالمية الثانية بنوع خاص، حين كانت السيادة على البحار والمحيطات الطريق للهيمنة على المقدرات الكونية.
مشاهد عدة تدعونا للعودة إلى فكرة «انتقام الجغرافيا»، التي تحدث عنها الكاتب الأميركي روبرت كاجان في كتابه الشهير الذي صدر عام 2012، وفيه أشار إلى أن الجغرافيا اليوم تلعب دوراً كبيراً في تفسير العلاقات الدولية، وكذا النزاعات الأممية، والتي تفشل العولمة في تفسيرها.
المشهد الأول تتربع فيه الولايات المتحدة الأميركية في الصدارة، وهي التي تحاول جاهدة مجهدة Aأن تحتفظ بالقطبية المنفردة دولياً، وفي زمن لم تعد قادرة فيه على إدارة أزمات العالم بمفردها.
واشنطن من جديد تبغي أن تكون سيدة البحار والمحيطات بامتياز منقطع النظير؛ ولهذا أفادت البحرية الأميركية في الأسبوع الأول من شهر مايو (أيار) الحالي، بأنها عادت مرة أخرى لإنشاء أسطول البحرية الثاني، ذاك الذي تم تفكيكه في عام 2011.
الإعلان في حد ذاته إيذان بأن هناك عودة إلى عصر المنافسة بين القوى العظمى بحيث تزداد التحديات وتصبح أكثر تعقداً، والأسطول الثاني تاريخياً، والذي وجد في الفترة ما بين عامي 1950 و2011 كان مسؤولاً عن المحيط الأطلسي من القطب الشمالي إلى البحر الكاريبي.
تمتلك الولايات المتحدة في حاضرات أيامنا ستة أساطيل؛ وعليه فالتساؤل، هل هي في حاجة إلى المزيد من القطع البحرية، أم أن هيمنتها على «الجيوبولتيك» العالمي هي ما تدفعها دفعاً في هذا السياق؟
أفضل توصيف لمفهوم الجيوبولتيك الثقيل من حيث اللغة على الفهم، أنه تحليل التأثيرات الجغرافية على علاقات القوة في المعادلة الدولية، وهذا التحليل يتناول أطراف الزمان الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، على ضوء النظر للساحة العالمية الراهنة بتطوراتها المتسارعة منطلقاً لصياغة عالم مغاير.
حديث الهيمنة الجيوبولتيكية الأميركية والإشارة إلى الأسطول الثاني بنوع خاص أمر يشي بصراع في مياه القطب الشمالي المتجمد وربما الجنوبي يوماً ما، والجميع يعلم مقدار الثروات الطبيعية الكامنة هناك من غاز ونفط ومعادن نفيسة.
قبل أيام معدودات كان فلاديمير بوتين يؤكد أن غزو القطبين الشمالي والجنوبي أمر يحظى بأولوية لدى الدولة، والمعروف أن روسيا قد بدأت في الأعوام الأخيرة خطة طموحاً لتنمية واقعها الاقتصادي، عبر مغازلة ما تحت ثلوج القطب الشمالي من كنوز، والأمر لا يتوقف عند هذا الحد؛ فطموحات روسيا جعلتها تطور طريقاً بحرية شمالية لتضحى عند لحظة بعينها بديلة عن الطرق التقليدية من آسيا لأوروبا والعكس.
الاهتمام الروسي سبقه، ولا شك، اهتمامات واستكشافات من جانبي حلف الأطلسي؛ الأمر الذي استدعى الروس لأن يتخذوا التدابير العسكرية والدبلوماسية المختلفة لحماية مصالحهم في تلك المنطقة.
واشنطن تعي تمام الوعي تزايد احتمالات المواجهة الملحة مع الروس في الحال والاستقبال، وعليه فإن إحياء الأسطول الثاني سوف يسرع في نقل وحدات عسكرية كثيفة الحجم وتوجيهها إلى الجانب الآخر من الأطلسين، حيث القوات البحرية الروسية فوق المياه وتحتها تهدد تلك القوافل الحربية الأميركية، وبخاصة الغواصات النووية الاستراتيجية التي تناوب تحت الجليد في القطب الشمالي.
لا يمكن لأي محلل سياسي حصيف أن يشيح النظر عما يجري في حوض البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي، فمن جهة الأخير كانت البحرية الأميركية تحذر مؤخراً من حالة عدم اليقين في المياه الدافئة هناك من جراء التحرشات الإيرانية، التي تقف وراءها قطع من سفن الحرس الثوري، والتي غالباً ما كانت تقترب بشكل خطير من السفن الأميركية وبغيرها من السفن المدنية في مياه الخليج.
يخبرنا التحليل الجيوسياسي كذلك للشرق الأوسط، بأن البحر المتوسط بدوره لم يعد بحيرة أطلسية، إن جاز التعبير، بمعنى أنه لم يعد تحت سيطرة حلف الناتو مرة وإلى الأبد، ولا سيما أنه كان بالفعل مجالاً حيوياً لأعمال الأسطول السادس الأميركي لزمان طويل.
نجحت روسيا في تقاسم السيطرة على المياه الدولية، حين رفعت عدد قطع سفن ما يعرف بـ«أسطول البحر الأسود» بمقدار 15 سفينة مزودة بصواريخ، بالإضافة إلى تشكيل قوة بحرية روسية ضاربة مؤلفة من حاملة الطائرات «الأدميرال كوزنيتسوف» ترافقها غواصتان نوويتان، وسفن من طراز A949 «انتي» والطراد «بيوترفيليكي» بالإضافة إلى إعادة تأسيس القاعدة البحرية في طرطوس السورية.
حين تعيد واشنطن تشغيل أسطولها الثاني، فهي تفعل بإيعاز من إدراكها قوة المنافسة الروسية التي خلقت حاجزاً عازلاً أمام الجناح الجنوبي للناتو، ومن رؤية واضحة مفادها أن صواريخ كاليبر الروسية يمكنها أن تطال مدن جنوب أوروبا واليونان وتركيا وبلغاريا، حيث قواعد الحلف العسكرية التقليدية.
انتقام الجغرافية البحرية، إن جاز التوصيف، لا يتوقف عند الفضاء التقليدي الذي تشغره أميركا وروسيا؛ إذ باتت الصين اليوم منافساً استراتيجياً يحسب له ألف حساب، والتي تطور أسطولها البحري بوتيرة متسارعة، ما سيمكنها من امتلاك نفوذ بحري واسع يطال المحيط الهادئ خلال العقد القادم، أي أنها ستكون نداً بصورة أو بأخرى للأسطول الأميركي الخاص.
في الأول من مارس (آذار) المنصرم كانت حاملة الطائرات الصينية الجديدة «ليا ونينغ» تبحر في المياه الدولية، وناهيك عن كونها قطعة عسكرية عملاقة تعزز من النفوذ الحربي لبكين، فإنها تعد مدرسة لإعداد كوادر الأسطول الصيني، الذي بات يحتل الآن المرتبة الثانية في الأساطيل العالمية بعدد قطع 714، وتتقدمه كوريا الشمالية... الأسطول الأكبر من حيث العدد حول العالم 967 قطعة، ويليه الأسطول الأميركي بواقع 415 قطعة.
تتعزز الحاجة إلى صحوة الأساطيل؛ إذ وقر لدى الأطراف الدولية المتصارعة على القطبية الآتية من بعيد مفهوم ومبدأ عسكري. «المنافسة الاستراتيجية طويلة المدى»، وهو حاصل بالفعل في إعادة ترتيب الأوراق لعالم جديد يعرف بنظام... ما بعد صحوة الأساطيل.