د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

ليبيا... خزينة تستنزف

في ليبيا الفساد يلتهم خزينة البلاد، وينخر مؤسساتها في سابقة خطيرة تجعلها في الترتيب الأول من حيث الفساد بلا منافس، وفق تقرير ديوان المحاسبة الليبي لسنة 2017، وبذلك شهد شاهد من أهلها، فالتقرير الذي جاء في 920 صفحة مليء بالكوارث في التصرف في المال العام، ويعتبر بياناً للنائب العام، وإن كان خروج التقرير في هذا التوقيت يحمل الكثير من علامات الاستفهام، إلا أنه خرج من تحت جهة معنية بمراقبة المال العام للدولة، وهذه الجهة هي ديوان المحاسبة الليبي.
تقرير الديوان، فجر فضيحة من عيار الكوارث غير المسبوقة، والذي كشف فيه بالأرقام والمستندات فضيحة إهدار ونهب وفساد مالي كبير جداً، أظهر مدى حجم الإنفاق العبثي للمال العام، وأوجه الصرف المخالفة والمبالغ فيها، فبعد فضيحة صرف 5 مليارات دينار في قرطاسية مكتبية في دولة صغيرة بحجم ليبيا لعام واحد، هو عام 2012، أظهر تقرير ديوان المحاسبة صرف 278 مليار دينار في بضع سنين لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة، بين الجهات الحكومية في طرابلس والبيضاء.
التصرف في المال العام بالمجان، هو ما كشف عنه تقرير ديوان المحاسبة لسنة 2017، وأن المجلس الرئاسي صرف نهاية 2017 على جهات ليس لها علاقة بالمجلس في مخالفة للمادة (24) من القانون المالي للدولة، وكشف عن تجاوزات طالت الصرف على نادي سيدات لتعليم تمارين اليوغا بمبلغ 450 ألف دينار، وصرف 11 مليون دينار على ملابس أعضاء المجلس الرئاسي، وكأنهم جاءوا الوظيفة حفاة ولا ملابس لديهم، لتتحمل خزينة الدولة ثمن ثيابهم الفاخرة والباهظة بالملايين، الأمر الذي أظهر غضباً شديداً في الشارع الليبي الذي يعاني ضنك العيش والعجز حتى عن شراء رغيف الخبز، الذي قفز ثمنه إلى عشرة أضعاف، وهو يشهد حقائق يكشفها جهاز رقابي في الدولة وليس صحيفة أو قناة فضائية تعودت التضليل، بل هي حقائق بالأرقام والمستندات تكشف عن أن المجلس الرئاسي للدولة يصرف الأموال على تمارين اليوغا، وملابس أعضائه ويبخل بها عن علاج الشعب، بل حتى عن مأكله ومشربه.
التقرير كشف حجم الأموال المهربة للخارج تحت بند الاعتمادات المستندية لجلب سلع واحتياجات لا يتم استيرادها، كما تقتضي أوجه صرفها، بل تنتهي عملة صعبة تباع في الأسواق الموازية للمضاربة بسعر العملات الأجنبية، مما تسبب في انهيار الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية، حيث كشف ديوان المحاسبة أن المصرف المركزي والمصارف التجارية منحت موافقات على التوريد بقيمة تجاوزت 3.5 مليار دولار خلال الفترة من يوليو (تموز) 2017، وحتى بداية مارس (آذار) 2018، تجاوزاً لوزارة الاقتصاد صاحبة الاختصاص، ودون أن يتم إدخالها في منظومة الموازنة الاستيرادية كما تقتضي الإجراءات الرقابية السليمة.
التقرير أشار إلى سياسات اتبعها البنك المركزي أدت لارتفاع سعر الدولار إلى 9.5 دينار في السوق السوداء نتيجة سياسات خاطئة، حيث قال رئيس ديوان المحاسبة خالد شكشك: «الانقسام المؤسسي رمى بظلاله وأوجد صراعاً كبيراً بين المسؤولين لإدارة مؤسسات الدولة، وأن التعيينات العشوائية والوساطة أرهقتا خزينة الدولة»، ولعل لهذا السبب كانت المبادرة الفرنسية الجديدة والتي أطلقها بلاط الإليزيه وفي نقاطها الأول ركزت على توحيد المؤسسة المالية، وإلغاء كل المؤسسات الموازية كخطوة عاجلة ومهمة لحل الأزمة الليبية.
الحرص على أموال الدولة التي هي أموال الناس والتي قال الله تعالى فيها: «وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إلى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أموال النَّاسِ بالإثم وَأَنتُمْ تَعْلَمُون»، هي أولى خطوات أي حكومة وطنية، يمكن التعويل عليها لوقف هذا الهدر والنزف من خزينة الشعب المنكوب بلصوص الداخل والخارج، وإلى أن تكون لليبيا دولة مستقرة بحكومة وطنية، سيستمر النهب الممنهج حتى في وجود الرقيب، طالما الحسيب لا يزال غائباً.