لؤي عبد الإله
كاتب عراقي مقيم في لندن
TT

الانتخابات العراقية... من جبة الطائفية إلى حضن الوطن

يشبه الائتلاف الذي احتل المرتبة الأولى في نتائج الانتخابات الأخيرة الماء، فهو يتكون من عنصرين مختلفين تماماً؛ الأول يضم أحزاباً علمانية أبرزها الحزب الشيوعي، والثاني يضم أحزاباً ذات منطلقات دينية كحزب «الاستقامة الوطني» الذي يعد رجل الدين مقتدى الصدر زعيماً روحياً له. كأننا نحن هنا أمام غازّي الأكسجين والهيدروجين اللذين لن ينتقلا أبداً من الحالة الغازية إلى الحالة السائلة إلا بفضل اتحادهما بنسبة ذرتي هيدروجين لكل ذرة أكسجين.
كذلك هو الحال، مع هذين التيارين المختلفين، فلو دخل الحزب الشيوعي الانتخابات وحده لحصل على مقعد واحد في أحسن الأحوال. كذلك هو الحال مع التنظيم ذي التوجه الديني المنشأ حديثاً: «الاستقامة الوطني»، فإنه الآخَر لن يحصل إلا على عدد محدود ومتواضع من المقاعد.
هنا وبعد مرور خمس عشرة سنة عجفاء، ارتدّ مستوى المعيشة لقطاعات واسعة من العراقيين نحو الدرك الأسفل، بينما اتسعت دائرة الفساد ونهب موارد الدولة بشكل لم يسبق له مثيل، في الوقت الذي بلغت موارد النفط من عام 2003 إلى عام 2014 (حتى وصول الدكتور حيدر العبادي لرئاسة الحكومة) أكثر مما دخل على العراق من بيع البترول منذ بدء إنتاجه تجارياً في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، وحتى إسقاط نظام صدام حسين على يد الولايات المتحدة وحلفائها عام 2003.
لذلك، وبغض النظر عن عدد المقاعد التي حصلت عليها الأحزاب العلمانية في ائتلاف «سائرون»، فإن ضمه لقطبين يختلفان جذرياً في الكثير من القناعات الأولية، حدثٌ يعكس تحولاً ملموساً لثقافة ظلت تعد الهوية المذهبية والدينية أساساً يسبق المواطنة والانتماء إلى الوطن الواحد. وبتعقب الائتلافات الأخرى نكتشف وجود قائمتين عابرتين للطوائف والإثنيات والأديان، وهاتان هما قائمتا «النصر» التي حصلت على 42 مقعداً (حسب النتائج الأولية) و«الوطنية» التي حصلت على 21 (من دون تغيير عن نتائج الانتخابات السابقة). أما الخاسر الأكبر فهو ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي يمثل بالدرجة الأولى حزب الدعوة الإسلامية الشيعي، فقد حصل على 25 مقعداً (أي بخسارة مقاعد بلغت 67 مقعداً عن الانتخابات السابقة). في المقابل حصل ائتلاف «سائرون» على 54 مقعداً (بزيادة 30 مقعداً عن انتخابات عام 2014 السابقة).
مع ذلك فإن التحول لم يكن كلياً، فالنتيجة التي حققها ائتلاف «الفتح» الذي يمثل الحشد الشعبي، تعكس وجود قطاع مهم من الناخبين ما زالوا يشعرون بالعرفان بالجميل لهذه القطعات شبه العسكرية التي واجهت «داعش» وأسهمت في دحره وقدمت الكثير من التضحيات لتحقيق هذا الهدف، ولذلك كان احتلالها الموقع الثاني في عدد المقاعد البرلمانية (47 مقعداً) يعكس هذه الحالة الملتبسة.
يمكنني القول إن نتائج الانتخابات تشكل تحولاً نوعياً في مسار الحالة العراقية بعد انهيار الدولة وحل جيشها ومؤسساتها الأمنية على يد «المحافظين الجدد» في إدارة الرئيس بوش الابن، من خلال الأوامر التي نفّذها بول بريمر حال تسلمه رئاسة ما عُرفت آنذاك بـ«سلطة التحالف المؤقتة» للعراق. كذلك فقد أدى إصدار قانون اقتلاع «البعث» إلى طرد الكثير من الموظفين الأكْفاء وإحلال أشخاص عاشوا عقوداً من حياتهم في مهن حرة خارج العراق أو على مساعدات الدول المضيفة لهم، محلهم. ومع مرور الوقت تحولت الوزارات إلى قلاع منفصلة بعضها عن بعض، وتديرها فئات لا صلة لها بخدمة المواطنين، وغريبة عن إيقاع العمل البيروقراطي النظامي الذي تَشكَّل عبر عشرات السنوات من تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921.
أمام انعدام المقومات الأولية لتحقُّق الأمن الشخصي للمدنيين العراقيين واضطرار أعداد كبيرة من العسكريين إلى الانضمام إلى الميليشيات الشيعية والسنية سعياً لكسب شروط العيش الأولية لهم ولأسرهم، أصبحت الطائفة أولاً هي المظلة الحامية لهم، وعلى ضوء ملء الفراغ الأمني من قبل الميليشيات الطائفية أصبح العراق محكوماً بعدد كبير من الطغاة بدلاً من طاغية واحد، وأصبحت الأرضية جاهزة للخطوة اللاحقة: الفتنة الطائفية وتغيّر المناطق ديموغرافياً وفق الخلفية المذهبية، مع بقاء جزر صغيرة في بغداد محافظة على نسيجها التعددي.
أما الكيانات الدينية الصغيرة الأخرى فقد غادر معظم أبنائها العراق، وهذا يشمل المسيحيين بشتى مذاهبهم والصابئة، وغيرهم، بعد أن فقدوا حماية الدولة المنهارة لهم.
كانت الفترة التي عاشها أهالي بغداد بالدرجة الأولى بين عامي 2006 و2007 الأكثر قتامة ومأساوية، وخلالها جرت حملات التطهير الطائفي بشكل واسع، وقُتلت أعداد كبيرة من المدنيين بشكل عشوائي على يد رجال الميليشيات من سنة وشيعة، وبينهم الكثير من الكوادر المهنية المتقدمة في المجتمع.
كان مصير العراق كدولة خلال تلك الفترة على كف عفريت، وكانت الرهانات تدور كلها على قرب تفكك البلد بالكامل على أسس طائفية وإثنية.
كأن الاحتلال الأميركي - البريطاني حقق بقوانين قليلة من تفكيك للبلد وتفتيت للّحمة التي تجمع أبناءه ما فشلت فيه كل الحروب وفترات الحصار والتجويع التي مروا بها، فبدلاً من الخوف من طائرة قد تقصف بيوتهم أصبح الخوف من الجيران، وأصبح الميل إلى معرفة هوية الآخر الطائفية جزءاً من ثقافة طغت خلال سنوات الجمر تلك. انتقل الخوف من أن يكون خارجياً إلى داخلي.
وفي خضم هذا الخوف من الآخر، رُمِي لأهالي بغداد ذات التنوع المذهبي والديني والإثني، طوق نجاة كان موشكاً على الاختفاء: إنه العشيرة والانتماء العشائري، فما دام العراقيون العرب، سنةً أو شيعةً، ينتمون إلى نفس القبائل والعشائر أصبح بالإمكان تجديد هذه الجسم المتحجر وإعادته إلى الحياة. وهكذا ظهرت كيانات يرأسها شيوخ تقليديون أو أبناؤهم لفض الخلافات الواقعة في الحياة اليومية لرعاياهم وتوفير حدٍّ ما من الحماية لهم. أما بالنسبة إلى أولئك الذين بلا عشيرة فإنهم يستطيعون طلب الحماية من هذا الكيان أو ذاك، وبالطبع هناك اشتراك يقدمه الفرد لتمارس هذه المؤسسات دورها الفعال.
كأن هذه المرحلة التي امتدت من عام 2003 حتى يومنا هذا تنقسم إلى جزأين؛ الأول كان محكوماً بالهوية الطائفية، والثاني بالهوية العشائرية.
من الدولة إلى الطائفة، ثم من الطائفة إلى العشيرة. والآن تأتي الانتخابات لتضرب عرض الحائط بالكثير من الأعراف التي رسختها ثقافة المحاصصة وانفراط مؤسسات الدولة بعضها عن بعض.
الآن تميل الكفة لتَشَكُّل تحالُف واسع عابر للطوائف والإثنيات والأديان، يتكلف بالحكم من خلال حكومة تكنوقراط (أي حكومة خبراء ليسوا بالضرورة أن يكونوا أعضاء برلمانيين)، فهل سنشهد مرحلة جديدة: التحرك من العشيرة إلى الدولة، ومن الانتماء العشائري والمذهبي والديني إلى الانتماء إلى الوطن. أن تصبح المواطنة هي الهوية الأساس تليها الهويات الأخرى؟
من السابق لأوانه تقديم الإجابة، فالعراق والعراقيون ظلوا يفاجئون العالم بقدرتهم على تجاوز أصعب الظروف والخروج من الأنفاق الكثيرة التي مروا بها من دون أن يتشتتوا شذر مذر إلى كيانات وكانتونات صغيرة على حساب وطن كان العالم يحسب له حساباً كبيراً.