سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

باستثناء اليمن!

تبدو إيران غير مفهومة، وهي تُبدي على لسان مساعد وزير خارجيتها، عدم استعدادها للتفاوض حول دورها الإقليمي في أكثر من دولة في محيطها، باستثناء اليمن. وتبدو فيديريكا موغيريني، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، غير مفهومة بالدرجة نفسها، وهي تنفي أن تكون مكاسب أوروبا الاقتصادية، هي وحدها التي تقف وراء التمسك الأوروبي بالاتفاق النووي مع الحكومة الإيرانية، بعد إعلان الولايات المتحدة انسحابها منه!.. فالكلام في الحالتين، الإيرانية والأوروبية، ليس مقنعاً بالمرة، لأنه لا اتساق بين بعضه البعض، ولا منطق يحكمه!
ولا بد أن كل محاولة للبحث عن أسباب أوروبية، غير اقتصادية، للتمسك بالاتفاق والحرص عليه أوروبياً إلى هذه الدرجة، سيكون مصيرها الفشل الذريع، لأنها محاولة لن تصل إلى شيء ليس اقتصادياً وراء الموضوع، ولأنها سوف تجد الاقتصاد، وبمعنى أدق سوف تجد المصالح الاقتصادية حاضرة بقوة، في كل مرة من مرات البحث، حتى ولو بدت السياسة ظاهرة على السطح أمام العيون!
ونظرة عابرة على قائمة الشركات الأوروبية العاملة في إيران، أو المرتبطة بأعمال هناك، أو المستفيدة من وجود طريق مفتوح مع طهران، سوف تقول لنا إن كلام موغيريني عن تداعيات سيئة على أمن أوروبا، في حالة تحللها من الاتفاق، هو كلام من نوع ذر الرماد في العيون، ليس أكثر، لأنه يفتقد الدليل الذي يجعل المتابع له يصدقه، ولأنه يمثل نوعاً من التعسف في تصوير أمور للناس لا علاقة بينها، على أنها وثيقة الصلة بعضها ببعض، وعلى أن الصلة بين أركانها قائمة، وقوية، ومرئية بالعين المجردة!
وكَمْ تمنى الواحد منا لو أن الأوروبيين والروس وهُم يفاوضون الإيرانيين هذه الأيام في بروكسل، حيث مقر الاتحاد الأوروبي، على الإبقاء على الاتفاق، وفي غير بروكسل، حيث يدور وزير خارجية إيران بلا توقف بين شتى العواصم، قد وجدوا الشجاعة الكافية للاعتراف بأن لغة الاقتصاد وحدها هي التي تتحدث في كل لقاء، وهي التي تجعل إيران تتكلم بثقة في كل اجتماع، بل وتضع شروطاً لبقائها هي على الطاولة!
ولم تكن العاصمة الإيرانية لتتشدد هكذا على طاولة التفاوض، إلا إذا كانت تعلم بينها وبين نفسها، أن لديها أوراقاً في جيبها، يمكن أن تكون مؤثرة على الجانب المتفاوض معها، وأنها أوراق ذات طابع اقتصادي بحت، وأن الطرف الآخر يفهم هذا ويستوعبه!
ولا كانت سوف تُبدي هذه المرونة المفاجئة في ملف اليمن على وجه التحديد، دون سائر محطات ملف سلوكها الإقليمي، ما لم تكن قد اكتشفت أن استمرار تصرفاتها في بلاد سبأ على الشكل الراهن، غير ممكن، وغير ذي جدوى في آخر المطاف!
والسؤال هو: لماذا اليمن تحديداً؟!.. ولماذا لا تُبدي المرونة ذاتها في العراق، وفي سوريا، وفي لبنان، وهي الدول الثلاث التي يفاخر مسؤولون إيرانيون بأن بلادهم صاحبة نفوذ فيها، وأن هذا النفوذ يصل إلى حد القدرة على التأثير في عملية صناعة القرار في كل دولة منها؟!.. إن هناك حكومة لبنانية جديدة تتشكل في بيروت هذه الأيام، وهناك بالتوازي حكومة عراقية جديدة تتشكل أيضاً في بغداد، ولا تريد إيران أن تترك حكومة كل بلد منهما لتخرج إلى النور وفق إرادة رعايا الحكومة من أبناء البلد، ولكنها تتدخل علناً، وتريدها حكومة في الحالتين مُفصلة على مقاس حكومة المرشد!
فحزب الله في لبنان يعلن رؤيته للحكومة الجديدة، التي كلف الرئيس اللبناني، ميشال عون، سعد الحريري بتشكيلها.. وحين تقرأ في تفاصيل ما أعلنه الحزب، تكتشف أنها ليست رؤية لشريك في الحكم، بقدر ما هي رغبة من الشريك في فرض السطوة، وفي استعراض القوة، وفي الإعلان بأعلى صوت عن أنه موجود، وعن أنه يستطيع تعطيل التشكيل، ويستطيع نقضه إذا ما تشكل، أكثر مما يستطيع أي شيء آخر.. والمؤكد أنه ما هكذا يجب أن يفكر وأن يتصرف شركاء البلد الواحد!
وفي العراق ما كاد العراقيون يلتقطون أنفاسهم من عناء الانتخابات، وما كادوا يتهيأون لاستقبال حكومة جديدة، تتعامل مع إيران بوصفها دولة جارة، لا أكثر.. دولة ذات حدود مباشرة مع بلدهم، لا أكثر أيضاً، حتى كان قاسم سليماني قد طار إلى هناك، وحتى كان قد راح يدور على التحالفات الفائزة في المعركة، لعل كتلة أكبر تتشكل من أكثر من تحالف بينها، ولعل هذه الكتلة تكون هي الأقرب إلى بلاده، ولعل الحكومة المقبلة تكون ذات هوى إيراني يتحكم في قراراتها وفي سياساتها!
راح سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، يمارس هذا الدور ولا يخفيه، رغم أنه يعرف تماماً أن ما يمارسه يستفز الغالبية من العراقيين، لأنها أغلبية صوتت ضد كل وجود إيراني في العراق، فجاءت بتحالف يقوده مقتدى الصدر إلى مقدمة التحالفات الأربعة التي حققت فوزاً ذا شأن!
وهو لا يعرف هذا وفقط، ولكنه يعرف أن معركته مع أبناء اليمن إذا كانت قد بدت مع الوقت معركة بلا جدوى، فإن معاركه في العواصم الثلاث الأخرى ستنتهي إلى النتيجة نفسها على المدى البعيد، لأن قناعة كل لبناني في الآخر، أن لبنان لا بديل عن أن يكون للبنانيين وحدهم، وكذلك الحال مع كل عراقي في العراق.. ومع كل سوري في سوريا.. وإنْ طال الأمد بالعبث الإيراني في كل بلد من البلاد الثلاثة!
لقد يئست إيران، فيما يظهر، من تحقيق أي نصر يُذكر على اليمنيين، ويئست من إحراز أي نصر على قوات التحالف التي تقاتل إلى جانب كل يمني، ضد جماعة حوثية لا تريد أن تفهم أن أهل اليمن إذا قبلوها جزءاً من مكونات البلد، فلن يقبلوا بها سلطة على رأس البلد، وإذا قبلوا بها شريكاً في الحكم، فلن يُجيزوا لها أن تفرض هيمنة غير مستحقة على البلاد، وإذا قبلوا بها جماعة وطنية، شأن كل جماعة وطنية أخرى، فإن ذلك مشروط بأن يكون ولاؤها في كل حالاتها هو لصنعاء، لا لطهران!
ليس أمام إيران سوى أن تفهم أن المرونة التي أبدتها فجأة في ملف اليمن، لا بد أن تكون مرونة حقيقية، لا استعراضية، وأن تكون غير مشروطة، وألا ترتبط بشرط ولا بطلبات، وأن تتصرف بها نفسها في باقي العواصم الثلاث، لا في العاصمة اليمنية وحدها، لأن السلوك الإقليمي المرفوض لها في المنطقة، لا يمكن أن يتراجع بالتقسيط.. إنه كل لا يتجزأ ولا يقبل القسمة على اثنين!