عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

مناورة مهاتير الأخيرة

ما الذي يدفع رجلاً في الثانية والتسعين من العمر لترك حياة التقاعد، والمغامرة بالعودة إلى ساحة السياسة وصراعاتها؟ هل هي شهوة السلطة، أم الإحساس بالمسؤولية والرغبة في إصلاح أوضاع مختلة؟
مهاتير محمد، رئيس الوزراء الماليزي العائد إلى المنصب الذي تركه قبل 15 عاماً، يقول إنه يريد إصلاح أخطائه، معبراً عن الندم، وطالباً الصفح «عما ارتكبتُه من أخطاء قادت إلى هذا الوضع». كرر هذا الكلام كثيراً أثناء حملة الانتخابات الأخيرة، وبعد عودته إلى سدة الحكم، قائلاً إنه في هذه السن المتقدمة لا يملك إلا وقتاً قليلاً لكي يصحح أخطاءه. بالفعل بدا مهاتير متعجلاً؛ قلب المشهد رأساً على عقب في ثلاثة أسابيع، بدءاً بكسر ظهر الحزب الحاكم الذي أسهم في بنائه، مروراً بمنع رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق وأسرته من مغادرة البلاد وتفتيش سكنه وإجباره على المثول أمام هيئة مكافحة الفساد، وانتهاء باستصدار عفو عن نائبه السابق ومنافسه السياسي أنور إبراهيم الذي كان قد دفع به إلى السجن. كذلك ألغى قرارات بفرض ضرائب جديدة أعلنتها الحكومة السابقة، ووجدت معارضة شعبية كبيرة، وقرر في الوقت ذاته تخفيض رواتب الوزراء.
لكن خصومه يقولون إن الرجل يتقن فن المناورات السياسية وجذب الأضواء، وإنه مفتون بالسلطة، ولم يستطع الابتعاد عنها. فعندما تنحى في 2003 أعلن أنه يريد أن يرتاح، وسيمارس سياسة الصمت محتفظاً بآرائه لنفسه. لكن لا هو صمت، ولا تورع عن الخوض في الجدل السياسي، وسرعان ما دخل في مواجهات مع الحكومات التي جاءت بعده، ثم مع حزبه الذي استقال منه عام 2006 معلناً أنه «من المخجل أن يرتبط بحزب يدعم مظاهر الفساد في البلاد». المشكلة بالنسبة لهؤلاء الذين يشككون في دوافع عودة مهاتير السياسية، لا يستطيعون إنكار أن الفساد استشرى بعده، وأصبح مادة للتندر والسخط في أوساط الناس، وأن تلك الأجواء جعلت الساحة ممهدة لحدوث تغيير في الساحة السياسية.
حكومة مهاتير الجديدة باشرت بالفعل منذ يومها الأول في مواجهة ملف الفساد معلنةً أنها بدأت مساعيها لاسترداد مليارات الدولارات التي اختفت في عمليات فساد وغسل أموال في الخارج، وتريد استخدام تلك الأموال المنهوبة لتسديد الدين العام الذي بلغ 250 مليار دولار. وستكون التحقيقات منصبَّة على معرفة مصير الأموال المفقودة من الصندوق السيادي الماليزي، التي تقدرها السلطات الماليزية والأميركية بنحو 4 مليارات ونصف المليار دولار، ويُتهم فيها رئيس الوزراء السابق نجيب وبعض المقربين منه، الذين ينفون ارتكابهم لأي جرم.
محاربة الفساد ستكون أحد الملفات المهمة التي سيُحكم بها على مهاتير في عودته للسلطة، لكنها لن تكون الملف الوحيد؛ فالاقتصاد الماليزي يواجه تحديات كبيرة لن تُحلّ فقط باستعادة الأموال المنهوبة، هذا إذا استعيدت هذه الأموال أصلاً. والائتلاف الذي نجح في إطاحة الحكومة عليه الآن التوافق على برنامج لإنعاش الاقتصاد، وتفادي الغرق في وحل الخلافات والتجاذبات السياسية بين حلفاء اليوم وخصوم الأمس؛ فالحلف بين مهاتير وأنور إبراهيم نموذج للميكافيلية السياسية، وسيكون موضع اختبار صعب. الخصومة الشديدة التي جعلت مهاتير يرمي بأنور في السجن بطائلة اتهامات كان يُراد منها أن تدفنه حياً، بالمعنى السياسي، لم يمنعهما من تشكيل تحالف انتخابي يطيح الحزب الحاكم الذي هيمن على الحياة السياسية أكثر من نصف قرن. كل منهما رأى في هذا التحالف «زواج مصلحة» لا متعة. مهاتير يعود إلى الحكم، ولو لعامين، نظرياً، وأنور يخرج من السجن بعفو، وينتظر دوره للوصول إلى سدة الحكم، بعدما حلم بذلك طويلاً، وظن لوهلة أنه فقد فرصة تحقيق حلمه بعد الضربة الموجعة من «الثعلب العجوز».
الآن مع عودة الرجلين إلى الواجهة السياسية، هل عادت الثقة بينهما؟ مهاتير يقول إنه نادم على ما حدث في الماضي، ويريد أن يصحح خطأه، لذلك طلب الصفح من حليفه اللدود ونائبه السابق، وسيفسح له المجال لتسنم منصب رئيس الوزراء بعد عامين، حسب الاتفاق الانتخابي الذي سيخضع لكثير من الاختبارات حتماً. أنور إبراهيم من ناحيته يقول إنه قَبِل الاعتذار ويتوقع تعاوناً وثيقاً والتزاماً بالاتفاق المبرَم بين الطرفين، لكنه وكنوع من الضمان رأى زوجته عزيزة إسماعيل تُعيّن نائباً لرئيس الوزراء إضافة إلى منصبها في الحكومة وزيرةً لشؤون المرأة وتنمية الأسرة، وبذلك تكون عيناً على مهاتير حتى لحظة تنفيذ اتفاق التنحي بعد عامين.
العلاقات بين الرجلين ستحدد الكثير خلال المرحلة المقبلة، فإما أن يستمر التناغم وتطبق الحكومة برامج محاربة الفساد وإنعاش الاقتصاد، أو تنفجر الخلافات القديمة والضغائن المدفونة فيسعى أحدهما للإطاحة بالآخر. مهاتير الذي يقول إنه في هذه السن لا يملك وقتاً طويلاً، قد يرى الآن فرصة لوضع بصمة أخيرة على المشهد الماليزي وذلك بتنفيذ اتفاق نقل السلطة بعد عامين... وبجعل الحرب على الفساد معركته الأخيرة. هذا الأمر يناسب أيضاً أنور إبراهيم الذي يعرف أن الوقت لصالحه، وأن كل ما عليه هو أن يأمن جانب «الثعلب العجوز» إلى حين موعد التقاعد المقبل.