فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

مستقبل الثقافة في السعودية

«سأل الفيلسوف اليوناني سقراط سؤالاً ظلّ صداه يتردد عبر القرون: كيف ينبغي للمرء أن يحيا؟ يستلزم هذا السؤال أن نتأمل أنفسنا كأفرادٍ تأملاً عميقاً، على نحوٍ يفضي إلى أن نغير ما بأنفسنا. ويسأل علماء الأنثربولوجيا سؤالاً آخر وثيق الصلة: (كيف نحيا معاً؟) ويفضي هذا إلى مجموعة كثيرة ومتنوعة من المشكلات، ليس: (من أنا؟)؛ بل: (من نحن؟) وليس: (ما الذي ينبغي أن أعمله بوجهٍ عام؟)؛ بل: (كيف نترابط بعضنا مع بعض؟)، وليس: (ما الذي كان ينبغي عمله؟)؛ بل: (ما الذي حدث؟)».
تلك تعليقات من مايكل كاريذس في كتابه: «لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة»، وبمقولته تلك نتساءل: كيف يمكننا نحن السعوديين أن نرسم مساراً لمستقبل ثقافتنا؟!
إنه تغيير ثقافي مهم أن تخصّ الثقافة بوزارة مستقلة، ويكون على رأسها الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود. لطالما كانت المؤسسات الأدبية والثقافية تائهة بين بقية الوزارات؛ وآية ذلك أن الأندية الأدبية بقيت تابعة للرئاسة العامة لرعاية الشباب حتى عام 2003، قبل أن تضم إلى وزارة الثقافة والإعلام.
لم يكن الاهتمام بالأندية الأدبية والمؤسسات الثقافية كبيراً، إذ جرى التركّيز لمدة ثلاثين سنة على مراعاة تيارٍ واحد يكاد يسيطر حتى على المؤسسات الثقافية، ويتربّص بالأندية الأدبية، ويتدخل في إلغاء أنشطة أو إحياء أخرى.
لقد رأيتُ هذا شخصياً بتجارب محاضرات، كنتُ فيها مشاركاً أو حاضراً في أندية أدبية. وقد أُلغيت أمسيات كثيرة لمثقفين وأدباء يعزّ حصر أسمائهم.
كان المسار الرسمي بغية الانتصار للثقافة ضعيفاً ومنحازاً لتيارٍ ضد آخر، بينما الأجدى إتاحة المجال للأفكار الحرة أن تنطلق في المجتمع، وأن تجد النظريات الحديثة والمناهج المعاصرة والثورات العلمية المختلفة طريقها للمؤسسات الثقافية والأندية المختلفة، ولعل هذه هي بداية المنعطف نحو مسارٍ تكون فيه السعودية حاسمة لمسارها الثقافي الريادي.
في عام 1938، سأل طه حسين نفسه، وتأمل مع المصريين حول «مستقبل الثقافة بمصر» وهو عنوان كتيّبه الصغير، وبسبب مضمونه الصارم، فإن نقاشاتٍ لا تزال تثار حوله، ذلك أن ظرف الكتاب كما هو معروف جاء بعد معاهدة 1936 بين المصريين والبريطانيين، تلك الجذوة التي أشعلت السؤال بذهن الأديب الكبير، أراد لمصر أن تكون بوقتٍ مبكر ضمن الحضارة الغربية؛ حضارة الفلسفة والعلوم والصرعات الفيزيائية والتقدم الطبي؛ بدلاً من الذهاب إلى حضارات الشعوذة الشرقية، وضمن رسالته سرد فقراتٍ من تاريخ مصر العلمي، وتأثيرها على اليونان، وكيف أن مصر وإن كانت ضمن الثقافة العربية، بيد أن التاريخ يجعلها أقرب إلى اليونان وإيطاليا. والهدف من السؤال البحث حول مستقبل الثقافة بمصر وكيف سيكون، هذا مع وضعه مساراً عاماً يتعلق بمعالجة النظرة لتاريخ مصر وثقافتها وحضارتها، مما جعل الأدباء الكلاسيكيين يشغبون عليه، وليرد أبو فهر محمود شاكر، عام 1978، على طه حسين بـ«رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» ضمنها الطبعة الثالثة من كتابه «المتنبي»، وفيه إدانة للمناهج الأدبية الحديثة بمصر، ومنها ما دعا إليه طه حسين.
المأمول الآن وضع استراتيجية لمستقبل الثقافة بالسعودية، وليس الهدف منها استنساخ تجربة معيّنة، أو الخروج عن القيم الأساسية المتبعة، أو التحدي للمجتمع وأدبياته، وإنما وضع أفكارٍ عامة تكون المسار للمستقبل الثقافي، وهذا يتضمن عدداً من الأسس، منها الاهتمام بحريّة التفكير للمثقفين والأدباء السعوديين، بدلاً من التخويف الذي تمارسه التيارات المتطرفة، وفتح المجال للمؤسسات الثقافية كلها كي تطرح الإِشكاليات المعرفية والثقافية والفلسفية على الطاولة، ضمن نقاشٍ علمي رصين، وإدارة حوارية صارمة، وليس المراد وضع كل تلك المؤسسات لتيارٍ ثقافي واحد، وإنما ترك المنابر للمثقفين، ولعرض الآراء المتصارعة الحداثية والكلاسيكية، وهذه وظيفة المؤسسة الحكومية، ألا تكون طرفاً بالصراع؛ بل تتيح المجال للأفكار والحجج، والمتلقي يختار بنهاية المطاف ما يقتنع به.
المؤسسات الثقافية من ضمن وظائفها نشر الأسئلة المحرضة على التفكير، واستفزاز الركود الثقافي بالمجتمع، وذلك بغية الانتقال من مرحلة إلى أخرى، والارتقاء نحو الحياة المدنية المؤسسة على الفردانية، والالتزام بسيادة القانون، واحترام الآخر، وهذه مهام تحتاج إلى إداريين يجعلون المؤسسات الثقافية محل اهتمام كل الأجيال، بدلاً من اقتصارها على المثقفين الذين يقرضون أوقاتهم وسنينهم بالحديث حول «التناص» أو «قصيدة النثر» أو «الشعر العامي».
من المهم بعث التوجهات المدنية، ونزع فتيل الخلاف مع الغرب تحديداً، والتطبيع مع الفلسفة، وعدم الخوف والرعب من النظريات الحديثة والتوجهات الأدبية والعلمية المختلفة. هذا مسار ثقافي مهم للسعودية، وينسجم مع التحولات الكبرى التي يقودها مبتكر الرؤية الأمير محمد بن سلمان.
إن مستقبل الثقافة السعودية عليه أن يسير بخطٍ متوازٍ مساراً وسرعة، مع التطورات الكبرى المختلفة والتنويرية التي تشهدها المملكة.
مما قاله هيرسكوفيتش: «الثقافة ثابتة، غير أنها ديناميكية أيضاً، فهي في تغير دائم ومستمر».